تحت سطح أزمة التشكيل الحكومى فى العراق، يدور صراع أمنى محتدم ما بين أجهزة الاستخبارات وما اصطلح على تسميته شعبياً بـ«فِرَق الموت»، أحد فصوله وصل مدينة البصرة فى أقصى الجنوب، حيث شهدت مؤخراً تفجيراً أودى بحياة أربعة أشخاص وخلف عدداً من الجرحى. أهم ما ذكر فى هذا الشأن عبر المتحدث باسم القائد العام للقوات المسلحة، أن الانفجار استهدف ضابطاً عمل فى التحقيق بقضية اغتيال الصحفيين، لكن الأخطر ذكره رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى بكلمات واضحة فى وصفه الجريمة بالغدر والخيانة، مشيراً إلى أن قتل ضباط الأجهزة الأمنية هو سلسلة جرائم «واحدة» ومعروفة للجميع!
فى مطلع العام 2020 اغتيل فى البصرة الصحفيان أحمد عبدالصمد وصفاء غالى، وتمكنت أجهزة الاستخبارات العراقية حينها من تحديد الجانى وهو «حمزة العيدانى» الذى قُبض عليه، وحكمت عليه محكمة المحافظة بالإعدام نوفمبر الماضى والتى قام فيها بأداء «سجدة شكر» حين النطق بالحكم. الصحفيان قُتلا بسبب تغطيتهما المتعاطفة مع التظاهرات التى شهدها العراق لأكثر من عام، فى واقعة مشابهة لدوافع اغتيال الكاتب والباحث فى الشئون الأمنية وقضايا الإرهاب «هشام الهاشمى»، الذى نجحت الأجهزة الأمنية فى فك لغز إطلاق النيران عليه أسفل منزله فى يوليو من العام نفسه، لاسيما وقد تبنى حينها «الهاشمى» ذات الموقف القوى لصالح الاحتجاجات التى طالبت بالإصلاح الشامل، منددة بالهيمنة الإيرانية وتوغلها فى الشأن العراقى.
وفق اعترافات أحمد الكنانى المتهم الرئيسى فى اغتيال الهاشمى الذى يعمل ضابط شرطة برتبة ملازم أول، والتى أدلى بها أمام القضاء وتم بثها على التليفزيون الرسمى العراقى، أن المجموعة التى نفذت عملية الاغتيال تتكون من أربعة أشخاص بينهم الكنانى، استخدموا حينها دراجتين ناريتين وسيارة مدنية تحركوا بها من منطقة «البوعيثة» التابعة لقضاء الدورة جنوبى بغداد، ومن ثم انسحبت المجموعة بعد تنفيذ الجريمة بمنطقة «زيونة» وسط العاصمة باتجاه مدينة الصدر، ومنها إلى منطقة كسرة وعطش شمالى بغداد. هذه الأريحية فى التحركات وحجم التغطية اللوجيستية ومدى الاختراق الذى نجحت المجموعة فيه، والذى تكرر تقريباً فى البصرة برصد وتتبع الضباط القائمين بالتحقيق فى جرائم اغتيال الصحفيين، يلقى بظلال قاتمة حول حجم الجهد الأمنى الذى تقوم به أجهزة الاستخبارات العراقية فى ملاحقة وتطويق «فرق الموت»، وتدفع باتجاه الربط «المنطقى» بين تلك المجموعات وبين الفصائل المسلحة الكبرى الموجودة بالعراق، باعتبارها الوحيدة التى تملك هذه الإمكانيات والقادرة على تأمين هذا الدعم لتلك الفرق، خاصة أن الأهداف تأتى لصالحها طوال الوقت.
فى جريمة اغتيال الباحث هشام الهاشمى بوسط العاصمة بغداد، جرت فى البداية محاولات عدة لإلصاق التهمة بتنظيم «داعش»، بالنظر إلى نشاط الهاشمى البحثى والإعلامى المناهض لتلك الحركات المسماة بـ«الجهادية». لكن الأمن لم يأخذ بتلك الفرضية المضللة وتعقب الجناة إلى أن وصل لكشفهم، وفى البصرة لم يكن هناك مجال للزج بـ«داعش» بحسب دوافع الجريمة التى تستهدف إرهاب رجال الأمن، ومحاولة تقييد حركتهم فى ضبط وتعقب المنتمين لـ«فرق الاغتيال»، الذين لا يقلون هوساً ولا تعصباً وإن ظل فى اتجاه ولائى آخر، مرتبطاً بالمذهب وبالداعمين من خارج العراق. وجاء العامل الجغرافى لموقع البصرة البعيد عن مناطق «داعش» التى تنشط بأقصى الشمال، فى المنطقة الفاصلة بين العراق وإقليم كردستان بالقرب وحول مدينة «كركوك»، ليجعل وصول التنظيم إلى البصرة ومن ثم تصور ارتكاب عملية اغتيال فيها مستبعداً.
أهالى المحافظة الجنوبية بالعراق يدركون حجم الفصائل الكثيرة والمتعددة التى توجد بمدينة البصرة، ويرقبون عملية العض «الخشن» على الأصابع التى تدور بينها وبين أجهزة الدولة التى تتوعد طوال الوقت بملاحقة عناصرها المنفلتة، ويستخدم فيها مصطفى الكاظمى أسلوب الحصار الناعم والصارم فى ذات الوقت، فهو يرى أن تلك المجموعات تريد أن تسحب أجهزة الدولة إلى مواجهة على أرضيتها الخاصة، فى الوقت الذى يصر رئيس الوزراء فى كل مرة أن يصل بهؤلاء إلى ساحة القضاء للاقتصاص القانونى منهم، كما فى حالة «حمزة العيدانى» مؤخراً وقبله الهاشمى وغيرهما. لكن تبقى معضلة إمكانات تلك المجموعات التى تتلقى الأموال والأسلحة والمتفجرات، وتستخدمها فى عملياتها على النحو الذى يكشف ما تتمتع به وتجعلها قادرة على تنفيذ مخططاتها، التى ليست ببعيدة عن مستهدف الفصائل التى تناطح الدولة، حتى وهى تعيش اليوم مأزق نتائج الانتخابات التى أطاحت بها للمرة الأولى منذ تشكلها.
الذى يزيد الأمر تعقيداً ويجعل مجابهة تلك الفصائل وأذرعها «فرق الموت» وغيرها بالغ الصعوبة، أنها تمثل اليوم مكوناً رئيسياً فى لعبة إقليمية ودولية ما لبثت أن انخرطت فيها منذ دخولها فى مهام سميت حينها «مكافحة الإرهاب»، وتلقت دعماً تسليحياً هائلاً من إيران حينئذ على مسمع ومرأى من الجميع، وجرى التنظيم والتأهيل لكياناتها وعناصرها بالصورة التى جعلت انسحابها من المشهد بعد هزيمة «داعش»، أمراً يصعب التسليم به بعد المكانة التى نجحت فى أن تحظى بها. وعلى جانب آخر لا يتصور أن تتخلى إيران بسهولة عن تلك الأذرع والكيانات، التى صارت تستخدمهم ليس فى الحديث مع دولة وسيادة العراق فحسب، بل شكلوا لطهران حروف اللغة المعتمدة فيما بينهم وبين دول الخليج، ويمثلون أيضاً الأوراق الرئيسية للملف الذى تسافر به إلى فيينا بين الحين والآخر. لهذا بدا الاستثمار فيهم فاعلاً وذا جدوى؛ وإن أظهروا بعض الانفلات فيما يخص التوقيت والأهداف التى ينطلقون تجاهها، لكن يظل انخراطهم فى ملفات بحجم تقليص الوجود والتعاون مع الولايات المتحدة فى العراق، دالاً على قدر اعتمادية إيران على قدرات تدخلهم وفق أجندة إدارتها لمساحات تمددها ونفوذها.
فى النهاية؛ وفى ظل فصل التصعيد غير المكتوم ما بين طهران وتل أبيب، الذى ينبئ بدفع المشهد إلى استخدام القوة الصلبة لتفكيك الانسداد فيما بينهما، لا يتصور أن يطرأ أى جديد فى الوقت الراهن على الأقل، فيما يخص تموضعها النافذ على مسرح أحداث العراق.