فى أيامنا، وأقصد أيام الصبا إبان دراستنا الثانوية والجامعية وحتى السنة الأخيرة لدراستنا بالجامعة، كنا نطالع سلامة موسى باستمرار، من خلال «اليوميات» التى كانت تنشرها جريدة الأخبار لكبار المفكرين والكتاب والشعراء والأدباء، وقد ظل الأستاذ سلامة موسى، وهو معدود من كتاب اليسار المعتدل، ورائد الاشتراكية المصرية، ظل يواظب على كتابة تلك «اليوميات» حتى أيامه الأخيرة، قبل أن يغادر الدنيا ويرحل إلى ملكوت السماء فى 4 أغسطس 1958 عن واحد وسبعين عاماً.
كان المرحوم سلامة موسى ملء السمع والبصر، يقر مفكر كبير بوزن الدكتور لويس عوض أنه تعلم منه بعد العقاد، وأخذ عنه، وتأثر به.
ولا غرابة فى ذلك، فسلامة موسى معدود ضمن أكبر المفكرين المصريين فى النصف الأول من القرن العشرين، ومن مدرسة رواد الفكر الوطنى المصرية، ترأس زمناً تحرير مجلات الهلال والمجلة الجديدة، وتتلمذ على يديه كثير من الأدباء والكتاب المصريين، ممن دخلوا بعد ذلك فى عداد المشاهير.
من مؤلفاته التى كانت قبلة للمثقفين: مقدمة السوبرمان (1910)، نشوء فكرة الله (1912)، الاشتراكية (1913)، أشهر الخطب (1924)، الحب فى التاريخ (1925)، أحلام الفلاسفة (1926)، حرية الفكر (1927)، أسرار النفس (1927)، نظرية التطور وأصل الإنسان (1928)، الدنيا بعد ثلاثين عاماً (1930)، ضبط التناسل (1930)، جيوبنا وجيوب الأجانب (1931)، غاندى والحركة الهندية (1934)، ما هى النهضة (1935)، مصر أصل الحضارة (1935)، الأدب الإنجليزى الحديث (1936)، الشخصية الناجحة (1943)، حياتنا بعد الخمسين (1944)، حياة العقل فى مصر (1945)، البلاغة العصرية واللغة العربية (1945)، التثقيف الذاتى وهو موضع حديثنا اليوم (1946)، عقلى وعقلك (1947)، فن الحب والحياة (1947)، طريق المجد للشباب (1949)، مجموعة قصص (1949)، هؤلاء علمونى (1953)، كتاب الثورات (1954)، الأدب للشعب (1956)،
الأدب والحياة (1956)، دراسات سيكولوجية (1956)، المرأة ليست لعبة الرجل (1956)، برنارد شو (1957)، مشاعل الطريق للشباب (1959 بعد وفاته فى أغسطس 1958).
لم تكن كل مؤلفات سلامة موسى رغم عشقى لتقدميته متوفرة كلها فى مكتبتى، وكان التفتيش عليها يسير عشوائياً لعدم معرفة دار النشر التى أصدرت كل كتاب من مؤلفاته، وتصادف يوماً أن كنت أترافع أمام محكمة جنايات الإسكندرية يوم 21 سبتمبر 1990، وأنهيت واجبى مبكراً، وكنت قد أتيت بالقطار، وسأعود به، لذلك فقد بادرت بالذهاب إلى «محطة مصر» وهذا اسمها بالإسكندرية، إلاّ أننى لم ألحق بديزل الواحدة ظهراً، فخرجت أتسكع بشوارع وسط المدينة، وإذْ تقع عيناى على مكتبة قرب المحطة مكتوب عليها «مؤلفات سلامة موسى»، فبادرت بالدخول إليها، حيث تبين أن ابنه هو منشئ هذه المكتبة وفاءً لأبيه الراحل، حييته بحرارة، وجعلت أتطلع إلى الرفوف، وأخذت ما فى وسعى حمله فى سفرى بالقطار، وندمت لحظتها أن السيارة ليست معى، وإلاَّ كنت حملتها بالمزيد من كتب هذا الأديب الفيلسوف المرموق.
عدت إلى القاهرة بعدد من مؤلفاته، وأخذت منها كتابه «التثقيف الذاتى» فبادرت إلى تصفحه، وعندما أخرجته اليوم من بين رفوف الكتب لأكتب لك هذه السطور، رأيتنى قد أشرت عليه فى 21/9/1940، «تمنيت لو كنت قرأته من (40) عاماً حينئذ لوفر علىّ كثيراً من التيه!».
الكتاب لا يدعو فقط للقراءة للتثقف، ولكنه يثير ماذا يُقرأ، وكيف يُقرأ؟.. أو كما يقول فى تقديمه إن موضوعه هو تخريج المثقف. فهو يبحث الثقافة ماهيةً وغايةً وقيمةً.. كما يبحث الوسائل لتحقيقها. لا يعنى المؤلف بأى ثقافة ترص المعلومات، وإنما يجعل همّه «الثقافة العصرية» التى صرف إليها حياته ومؤلفاته.. بدءاً من السوبرمان (1910) الذى تلاه بمقالات وكتب جميعها لافت يتصدى للعصر بكل معالمه الفكرية والأدبية والسياسية والاقتصادية.. تعجب حين تتصفح قائمة كتبه التى اقتربت من الخمسين التى ذكرت لك بعضها.
أردتك أن تتعرف على الكاتب الذى نسيناه، قبل أن أحدثك عن الكتاب: كيف تتثقف ذاتياً.. مقدمة المقدمات «شهوة الرقى» أو «النزعة الارتقائية» التى تملأ نفوس الشباب وتدفع فيه الرغبة والنشاط، ولكن إلى أين، وكيف؟
يقول لنا سلامة موسى إن كتابه محاولة لإرشاد الشباب نحو الارتقاء الثقافى فى حدود البيئة المصرية والعربية بعامة. أو هو توجيه لرغبة التطور، وإيضاح للصحيح والزائف، فى عصر انفجارى ملىء بالأحداث والثورات والحروب والانقلابات، فضلاً عن التغير الآلى فى المخترعات. كيف نقف على اتجاهات ما يموج به عصرنا، فنكون قاعدتنا المعرفية التى تعين على الفهم؟!
ليس بوسعى أن أنقل إليك فى هذا الحيز شيئاً ذا بال من الكتاب، عشمى فقط أن أثير أشواقك إليه.. لترى كيف نثقف أنفسنا.. ماهية وقيمة الثقافة وغايتها، من هو المثقف، لا نقرأ بل ندرس، تخريج الرجل العربى العصرى، الكتب التى غيرت الأفكار والمجتمعات، الكتب العشرة التى تنقصنا، المعاجم العربية، سيكولوجية الدرس، كيف نقرأ الكتاب، الهواية فى الثقافة، والتربية للحياة، دراسة اللغة العربية والأدب العربى القديم والكتب العربية القديمة، اللغة الأجنبية، والآداب العالمية، الطريق إلى دراسة العلوم والسياسة والتاريخ والاقتصاديات والفلسفة والدين والفنون، كتب رمزية وكتب بذرية، التعمق للدراسة، مائة كتاب مقترحة قبل أن يختم ببرنامج للتثقيف الذاتى.
لن ينال الثقافة من لا يملأ بوعى فراغات معارفه. هام وأساسى أن نعرف تاريخ العالم وكيف نشأت الحياة الأولى وتطورت على أرضنا، وكيف توالدت ونشأت الحضارات، وأن نعرف تاريخ ومضمون الأفكار والمذاهب السائدة فى عصرنا،
وأن نتقن لغتنا العربية ونعرف إلى جوارها لغة أجنبية تتيح لنا الإطلال على ما كتب بلسانها.. رحلة سلامة موسى مع الثقافة وما يلزمها ويغذيها ويملأ فراغاتها رحلة ممتعة لا يستطيع البادئ فيها أن يغادرها إلاّ وقد وضع قدمه على أول الطريق!