ثمة العديد من الحقائق التى أضحينا نعرفها عن عالم وسائط «التواصل الاجتماعى»؛ ومن بين تلك الحقائق التى يصعب جداً دحضها أن تلك الوسائط تبث أخباراً مُضللة، وأن عدد تلك الأخبار يتزايد باطراد، وأن ثمة فاعلين سياسيين يستخدمونها فى عديد الأحيان من أجل تحقيق أهداف سياسية، وبعض هذه الأهداف ضار ومُقوض للأمن والاستقرار.
لذلك لم يكن مُستغرباً أبداً أن تصبح تلك الوسائط جزءاً من الخطط السياسية والاتصالية التى تعتمدها الحكومات أو التنظيمات الأقل من الدول أو الأحزاب والتيارات السياسية المتنافسة من أجل تحقيق أهدافها.
بل إن العديد من الدراسات العلمية الموثوقة أثبتت أن التنظيمات الإرهابية تعتمد على تلك الوسائط اعتماداً أساسياً فى مراحل عملها المختلفة؛ بدءاً من الدعوة ومروراً بالتجنيد ووصولاً إلى تسهيل العمل الميدانى وتوفير الدعم اللوجيستى للأنشطة الإجرامية.
لقد ساعدت تلك الوسائط أيضاً بعض التيارات الشعبوية على التمركز فى الوسط السياسى فى بلدانها، كما مكّنتها من الحصول على أصوات الناخبين، بل والوصول إلى سدة السلطة فى بعض الأحيان.
وعلى سبيل المثال، فإن ألمانيا التى تعرف نظاماً ديمقراطياً متماسكاً وفعالاً عانت من دور غير مسئول لتلك الوسائط فى تعزيز الحالة الشعبوية وزعزعة الاستقرار مع الصعود اللافت لاستخدامات «السوشيال ميديا» فى المجال السياسى.
فقد ساعدت تلك الوسائط حزب «البديل من أجل ألمانيا»، وهو حزب يمينى شعبوى تشكل فى العام 2013، على احتلال نحو 90 مقعداً فى «البوندستاج» (البرلمان) فى انتخابات 2017، ليعارض من خلالها المحافظين والاشتراكيين الديمقراطيين، عبر تبنيه خطابات يمينية متطرفة ومواقف سياسية حادة؛ مثل الدعوة إلى ترك الاتحاد الأوروبى، ومعاداة الإسلام والمهاجرين.
لا يمكن استبعاد تأثير وسائل «التواصل الاجتماعى» عند الحديث عن الأسباب التى ساعدت «البديل» على تحقيق هذا الصعود المطرد والتمركز فى الوسط السياسى الألمانى؛ كما لا يمكن أيضاً تجاهل دورها فى تعزيز وجود التيارات النازية وتأجيج نزعاتها العنصرية.
ولا ينكر قادة «البديل» أن تلك الوسائط النافذة كانت سبباً جوهرياً فى تعزيز حضوره؛ إذ يقول ماركوس شميت، مسئول الاتصال فى «البديل»، إن حزبه لم يكن لينجح بهذه السرعة من دون «فيس بوك».
يذكرنا ذلك بالدور التى لعبته تلك الوسائط فى تعزيز حظوظ الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب ليصل إلى سدة السلطة فى أقوى دولة فى العالم.
فقد كانت وسائل الإعلام «التقليدية» الرئيسية فى البلاد تعارض «ترامب»، وترى أنه لا يصلح لرئاسة الولايات المتحدة بسبب ماضيه الملتبس ونقص خبرته السياسية وشعبويته الظاهرة وميوله الموصوفة بـ«العنصرية»، ومع ذلك، فقد تجاوز تلك المعاندة الإعلامية «التقليدية» عبر اعتماده على الوسائط الجديدة.
وفى أكتوبر من العام 2017، قال «ترامب» إنه لم يكن لينجح فى الفوز بالرئاسة من دون «تويتر»، لينضم فى ذلك إلى ما قاله مسئول حزب «البديل» بخصوص الأدوار الشعبوية لتلك الوسائط.
وقبل أيام، أعلنت اللجنة البرلمانية الأمريكية المعنية بالتحقيق فى أحداث اقتحام «الكونجرس»، التى وقعت فى يناير من العام الماضى، أنها استدعت مسئولين عن أربع شبكات «تواصل اجتماعى» للإدلاء بشهاداتهم أمامها بخصوص الأدوار المؤثرة لتلك الشبكات فى الحادث الذى هز أركان النظام الديمقراطى الأمريكى.
فنحن نذكر ما جرى فى تلك الأثناء حين اندفعت حشود من مؤيدى الرئيس السابق ترامب لمهاجمة مبنى «الكونجرس» واحتلاله احتجاجاً على نتائج الانتخابات التى أطاحت بالملياردير الجمهورى لمصلحة الرئيس بايدن.
تريد اللجنة أن تسأل مسئولى «يوتيوب»، و«ألفا بيت» (الشركة المالكة لجوجل)، و«ميتافيرس» (الشركة المالكة لـ«فيس بوك»)، و«تويتر»، عن مدى إسهام الأخبار المضللة التى تم تداولها عبر تلك الوسائط فى إحداث الهجوم، وعما إذا كانت تلك الشركات اتخذت التدابير اللازمة للحد من المحتوى المضلل والإثارى وعمليات الحشد والتعبئة التى جرت عبرها.
يقول القائمون على اللجنة إنهم يشعرون بخيبة أمل كبيرة لأنهم سبق أن وجهوا تلك الأسئلة إلى هذه الشركات العملاقة من دون أن يحصلوا على إجابات شافية، بل إن بعض مسئولى تلك الوسائط لم يهتموا بالرد على اللجنة بالشكل المطلوب.
كما أنهم يشيرون إلى أن القدرات التقنية المتوافرة لدى الشركات المشغلة لمواقع «التواصل الاجتماعى» مكنتها من رصد خطط الهجوم على «الكابيتول هيل» وآلية تنفيذه وهويات الناشطين الذين دعوا إلى تلك العملية ونسقوها وحشدوا لها. ويعنى ذلك أن لجنة التحقيق قد توجه اتهاماً للأربعة الكبار بقدر من المسئولية عن تلك الحوادث عبر التواطؤ والتراخى فى معالجة المحتوى المتعلق بها.
يفيد أى تحليل دقيق لمحتوى معظم وسائل «التواصل الاجتماعى» فى أوقات الأزمات والاضطرابات وأعمال العنف أن تلك الوسائل تلعب دوراً تحريضياً فى كثير من الأحيان، خصوصاً أن المستخدمين عادة ما يكونون فى مأمن من ملاحقة السلطات رغم ارتكابهم جرائم التحريض وإشاعة الكراهية.
وبسبب كثافة الحسابات الزائفة وعدم وجود آلية جدية للتحقق من هوية المستخدمين، يسهل جداً استخدام تلك الوسائط فى تنسيق الاحتجاجات وتنظيم أعمال العنف من دون توقع أى مساءلة قانونية.
وإضافة إلى دورها الكبير فى إتاحة الفرص للاتصال والتعبير الحر عن الآراء والمواقف، فإن تلك المواقع باتت أيضاً المصدر الأساسى للأخبار، خصوصاً لقطاعات الشباب والأصغر سناً.
لذلك، فإن أثر الأخبار المضللة والتحريضية والداعية إلى العنف وتعزيز الميول الشعبوية والنزعات الحادة يتزايد.
فهل يكون تحقيق الكونجرس مع القائمين على تلك الوسائط بداية لمراجعة ضرورية لأدوارها الملتبسة؟