خلال عقود عدة، ولا سيما فى الفترة من 1880م إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، تعرضت القارة الأفريقية للاحتلال الأوروبى، حيث تم نهب ثرواتها من الذهب والمواد الخام وإرسالها إلى خزائن ومصانع الدول المحتلة. ويطلق بعض المحللين السياسيين على هذه الفترة تعبير «الزحف الأول نحو أفريقيا»، مستلهمين هذا التعبير من عنوان جريدة «التايمز» اللندنية (The Scramble for Africa)، تعليقاً على انعقاد مؤتمر برلين سنة 1884م، الذى ضم 14 دولة أوروبية راغبة فى اقتسام الكعكة الأفريقية. والغريب أن العالم الثالث قد وقع فى فخ استخدام تعبير «الاستعمار» (colonization) للدلالة على هذه المرحلة. وغنى عن البيان أن لفظ «الاستعمار» مشتق من الفعل «استعمر»، بما يوحى بأن الأمر يتعلق بأرض قاحلة جرداء، وأن هدف «المستعمر» الأوروبى هو «التعمير والاستعمار»، وليس «الغزو والنهب». أما المرحلة الثانية من الزحف نحو أفريقيا، فقد نشأت مع فترة الحرب الباردة بين القوتين العظميين آنذاك، وهما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى، حيث سعت كل قوة منهما إلى السيطرة على أكبر عدد من الدول الأفريقية، من خلال استمالة هذه الدول إلى معسكرها. وهكذا، رأينا معظم الدول الأفريقية تميل إلى المعسكر الغربى، بينما مالت دول أخرى إلى المعسكر الشيوعى أو الاشتراكى. ومع انهيار الاتحاد السوفيتى سنة 1991م، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة العالم، توقفت مؤقتاً مسيرة الزحف نحو أفريقيا، حتى سنة 2014م، حيث شهد العالم مرحلة جديدة، من خلال عودة الدب الروسى إلى مسرح الأحداث الدولى، وتصاعد اهتمام بعض الدول الكبرى بلعب دور أكبر على الصعيد العالمى، كما هو الشأن بالنسبة للتنين الصينى، هذا فضلاً عن رغبة بعض القوى الإقليمية فى أن تكون رقماً صعباً فى المعادلة الأفريقية والإقليمية، كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل وإيران وتركيا.
وفى مواجهة الغزو الخارجى لأفريقيا، وخلال المرحلة الثانية من الزحف نحوها، شهدت القارة السمراء العديد من الآليات الرامية إلى الحفاظ على حقوق الشعوب الأفريقية والصمود فى مواجهة الأطماع الأجنبية. وهكذا، ظهرت إلى النور منظمة الوحدة الأفريقية وحركة عدم الانحياز، حيث قامت مصر بدور فاعل فى دعم شقيقاتها من الدول الأفريقية. وإزاء ذلك، كان من الطبيعى أن تطلق العديد من الدول الأفريقية اسم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر على أهم شوارعها. ولكن، وبعد وفاة ناصر، بدأ الاهتمام المصرى بأفريقيا يخفت ويختفى تدريجياً، مما سمح لإسرائيل وغيرها من القوى الإقليمية بالتمدد وتحقيق مصالحها على حساب المصالح الأفريقية.
وإزاء ذلك، واعتزازاً بالانتماء إلى القارة السمراء، وتأكيداً على وحدة المصير بين مصر وأفريقيا، ولأول مرة، ينص الدستور الحالى على أن الشعب المصرى ينتمى إلى القارة الأفريقية (المادة الأولى). والرسالة التى يمكن أن نستقيها من هذا النص هى أننا قادرون معاً فى القارة السمراء على مواجهة الأطماع الأجنبية وأن نعمل معاً على نهضة شعوبنا. ونقطة البداية فى هذا الاتجاه تكمن فى استنهاض الهمم الأفريقية واستدعاء العديد من النماذج الملهمة للقارة السمراء، وأن نحسن نحن أبناء القارة تقدير أنفسنا وأننا قادرون معاً، دونما حاجة إلى الآخر الطامع فى ثرواتنا ومقدراتنا. وانطلاقاً من ذلك، وباعتبارى أحد رجال القانون، أرى من واجبى إلقاء الضوء على بعض النماذج القانونية الأفريقية الرائدة، التى تخلو كل المؤلفات والمراجع العربية من الإشارة إليها. ولعل كل رجال القانون فى القارة السمراء يجهلون تماماً دستور مالى، كوركان فوجا، الذى تم الإعلان عنه فى عام 1222-1236م، متضمناً الأحكام المنظمة للمسائل الدستورية والمدنية كافة. وقد أعلنت هذه الشرعة فى مدينة كوروكان فوجا (Kouroukan-Fouga)، وهى منبسَط سهلى عند منبع نهر النيجر (على الحدود الحالية بين مالى وغينيا)، ولذلك سُميت الشرعة باسمها. ولها كذلك اسم آخر، وهو شرعة ماندِن (Manden)، نسبة إلى القبيلة التى ينتمى إليها الإمبراطور سوندياتا كيتا (1190-1255)، الذى صدرت هذه الشرعة فى عهده. إذ إنه، وبعد انتصاراته العسكرية على أعدائه فى معركة كرينا (1235)، وتأسيسه إمبراطورية مالى، جمع الإمبراطور سوندياتا كيتا قوَّاده فى سهل كوروكان فوجا، وتوافقوا على شرعة، كانت الأولى والأقدم فى العالم، وسادت شفوياً فى عصرها، ومبدأها الوحدة المجتمعية وإعطاء كل فرد حقه أياً كانت طبقته الاجتماعية.
ولأهميتها التاريخية، وفى سنة 2009م، أدرجت منظمة اليونيسكو دستور ماندين، كوركان فوجا، على القائمة التمثيلية للتراث الثقافى غير المادى للبشرية، معتبرة إياه «أول تراث للإنسانية فى العالم ثقافى غير مادى». إذ تُعد نصوص هذا الدستور إرثاً ثقافياً، منظوراً فى ذلك إلى أنه مقاطع ملحمية شعرية ذات مفاصل أسطورية تنتقل حكاياتها شفوياً من جيل إلى جيل. ولعل ذلك يؤكد الدور المهم الذى قام به الشعراء المؤرخون فى مالى وغينيا، والعمل العظيم الذى اضطلعوا به فى حفظ هذا التراث غير المادى.