عندما تعيش تجربة الحب منذ طفولتك وأيامك الأولى وأحبتك المحدودين الذين يملأون عالمك الصغير ويتحركون داخل مقلتيك وتصبح عيناك مرآة لملامحهم ورئتيك مستودعاً لأنفاسهم وشعيرات أنفك الصغير قنينة لعطرهم، فالأمر يكون بسيطاً وممتعاً ومتاحاً دائماً.
إلا أن الأيام والسنوات تجعل الصورة تتغير، وفى جميع مراحلك العمرية التالية لتلك الأيام الخضراء البريئة يزداد عدد ساكنى قلبك وتتعدد انتماءاتهم وأماكن وجودهم، كما تزداد رغبتك فى البقاء معهم والاستماع إليهم ومشاركتهم الطقوس الخاصة، فتدفعك عواطفك ورغباتك وقلقك وأمنياتك وكل خلجات نفسك للبحث عنهم دائماً ومراقبتهم ووضعهم تحت عينيك وداخل قلبك وبين ذراعيك، ولأن تلك الرغبات من الصعب تحقيقها فكل منا يبحث عن وسيلة تجمعه بالحبيب دائماً.
وعندما تهاجمنى هذه الرغبات وأفتقد القرب من أحبتى فإننى أتمنى الحصول على وظيفة داخل (وكالة ناسا)، وهى الوكالة الوطنية للفضاء والطيران، التابعة للإدارة الأمريكية، والتى تملك فروعاً فى أغلب الولايات الأمريكية وصاحبة السطوة والتفوق والسيطرة على الفضاء الخارجى لتاريخها المبهر وتفوقها وإطلاقها العديد من الأقمار الصناعية وإرسالها أيضاً رواد الفضاء للهبوط على سطح القمر، حيث بدأت نشاطها عام ١٩٥٨، أتمنى لو أتجول داخل أروقتها وأن تكون لدى الحرية لاستخدام أجهزتها وأقمارها الصناعية ومعاملها الدقيقة للبحث عمن يعيش ويحتل القلب دون منازع.
وإذا أردت أن تعرف هذا الدور الذى تلعبه تلك الأقمار فى حياتنا يكفى أن تحرك مؤشر جهاز الراديو البسيط بين تلك الموجات، وأن تتوقف أمام كل موجة منها لتسمع ما تقول وما تغنى أو تعزف أو تعلن من أخبار الحروب والمؤتمرات والاجتماعات الدولية للجان الإغاثة والمساعدات، مخيمات اللاجئين، أو تسوق لمنتجات ومعارض دولية للبيع أو رحلات أو جامعات ومدارس، وتحذيرات من الأوبئة ومواعيد نشاط البراكين والسيول والثلوج، وقد تستمع لوقائع محاكمة القرن السياسية أو العسكرية أو حتى الاقتصادية، كما ستجد بين الموجات الكثير من الأصوات النشاز والموسيقى المزعجة والأسماء المنفرة التى لا تحمل أى معنى ولا يمكن أن ننسبها للغتنا الجميلة، ولا يمكن أن ننسى أنه من محتويات تلك الموجات إعلانات مخجلة ومذهلة عن كيفية جلب الحبيب ورد المطلقة وشفاء الممسوس ومنح الطاقة الجنسية وتغيير الملامح للأجمل ومنع سقوط الأسنان للشيوخ وغيرها وغيرها.
إلا أن الأمر يختلف عندما تدير مؤشر حياتك لتبحث عن تلك المحطات التى عشتها وتحركت بينها، فعندما أدرت مؤشر حياتى رأيت أننى نجحت فى إطلاق قمر صناعى جديد نادر ذى قدرات عالية أصبح يجوب السماوات ليغلق تلك الموجات التى سببت لنا تلوثاً سمعياً وبصرياً ويحطم المحطات الفضائية التى زرعت فى السماء من أجل العبث بحياتنا ومستقبلنا والاعتداء على خصوصياتنا، وتعجبت عندما رأيت مما تتكون تلك المحطات، حيث تبدو وكأنها دكان حداد قديم ملىء بقطع الصفيح المتلاصقة والمسامير من مختلف الأحجام والأسلاك المتشابكة المتقاطعة الملونة بألوان متنافرة ومزعجة، وتوقفت كثيراً أمام الموجة التى تبث الأمنيات داخلى وتدفعنى لتحقيقها وللبحث عن النجاح، فوجدت أن كلاً منا لا بد أن يكون له قمر صناعى خاص به لتصبح له عيون فى السماء ومرآة خاصة جداً، وأدركت أن هذا المسمى (satellite) ما هو إلا كائن يدور حول كائن آخر، فالأرض هى القمر الصناعى للشمس، والقمر هو القمر الصناعى للأرض، أما أنا فلست سوى قمر صناعى لأحبتى.