«إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً» يقول حين دعا ربه، وسأله بنداء خفىّ، يعنى: وهو مستسر بدعائه ومسألته إياه ما سأل، كراهة منه للرياء. كما حدّثنا بشر، عن قتادة قال: أى سراً، وإن الله يعلم القلب النقى، ويسمع الصوت الخفى.
«ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا» اختلف أهل العربية فى الرافع للذكر، والناصب للعبد، فقال بعض نحويى البصرة فى معنى ذلك كأنه قال مما نقصّ عليك ذكر رحمة ربك عبده، وانتصب العبد بالرحمة كما تقول: ذكر ضرب زيد عمراً، وقال بعض نحويى الكوفة، رفعت الذكر بـ«كهيعص»، وإن شئت أضمرت هذا ذكر رحمة ربك، قال: والمعنى ذكر ربك عبده برحمته تقديم وتأخير.
قال أبوجعفر: والقول الذى هو الصواب عندى فى ذلك أن يقال: الذكر مرفوع بمضمر محذوف، وهو هذا كما فعل ذلك فى غيرها من السور، وذلك كقول الله «بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وكقوله «سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا» ونحو ذلك، والعبد منصوب بالرحمة، وزكريا فى موضع نصب، لأنه بيان عن العبد، فتأويل الكلام (هذا ذكر رحمة ربك عبده زكريا).
«سورة الاستجابة» سورة الأنبياء معروفة بين المشايخ وأهل العلم بأنها سورة «الاستجابة» إذ إنها هى السورة القرآنية الوحيدة التى ورد فيها لفظ «فاستجبنا له» أكثر من مرة، وفى أكثر من سياق.
أول مرة: «وَنُوحاً إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) آية رقم 76.
وثانى مرة عن سيدنا أيوب عليه السلام: «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِين» آية رقم 84.
وثالث مرة عن سيدنا يونس عليه السلام «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ» آية رقم 88.
ورابع مرة عن سيدنا زكريا عليه السلام «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَه» آية رقم 90.
نأتى الآن إلى «فاستجبنا له» فى السياقات القرآنية هل هى قاصرة على الأنبياء فقط؟
واستشهدوا على هذا بأن الله سبحانه وتعالى بعدما قصّ فى القرآن أنه استجاب لسيدنا أيوب ماذا قال؟. قال سبحانه «رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ» كل العابدين، كل الذين يعبدونه سبحانه وتعالى، قريبون من رحماته كسيدنا أيوب. قال «وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِى الْمُؤْمِنِينَ» إذاً كل المؤمنين بالله وليس نبيه يونس فقط.
هنا فسره علماء تفسير القرآن على أنها تجمع مفاتيح استجابة ربنا سبحانه وتعالى للدعاء، ويدلك على المفتاح الذى استخدمه كل نبى حتى ينال مطلبه من الله، ولكن ما هذه المفاتيح؟
مفتاح سيدنا نوح كان 950 سنة من الصبر على دعوة قومه الكافرين بالله، طبعاً نحن لا نصبر 950 سنة، لكننا نصبر إذا كنا على يقين، صبراً جميلاً لا يفهمه من سخط على أقدار الله.
أما مفتاح سيدنا أيوب فكان الأدب الشديد فى مخاطبة الله لما قال «أنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» يقول علماء التفسير «مَسَّنِىَ» لأن سيدنا أيوب استحى أن يقول لربه إنك مسستنى بضر ومرض فقال «مَسَّنِىَ» وخاطب ربنا بأنه «أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» رغم ما كتبه الله عليه من مرض، وهى نفس المدرسة التى كان يخاطب بها أبوالأنبياء إبراهيم عليه السلام ربه عندما قال «الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ» 78 «وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ» 79 «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ» 80 سورة الشعراء.
وكأن الأنبياء عليهم السلام فى خطابهم لله عز وجل ينسبون له كل خير، ويبعدون عنه سبحانه وتعالى أى شر حتى لو جاء بقضاء الله.
كان مفتاح سيدنا يونس عليه السلام الدعاء «أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» قال رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم عندما سمع قول سيدنا يونس عليه السلام قال «إنه من أفضل الأدعية لأن أوله توحيد وأوسطه تسبيح وآخره استغفار».
أما مفتاح سيدنا زكريا فقد ذكرته سورة الأنبياء لنا بالنص «فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ». إذن هذه الآيات يمكن أن نتعامل معها كشفرة مختصرة، نحفظ أرقامها، ونلجأ لها عندما تُقفل الأبواب فى وجوهنا، الوقت الذى نحتاج فيه باباً واحداً من السماء يفتح لنا (76-84-88-90).
فاستجبنا له «لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» لعلها المنجية.