بعد أن أشرنا إلى الحوار المعجزة بين دعاء زكريا لربه وهو الطاعن فى السن وزوجه عاقر واستجابة الله لزكريا بإنجابه يحيى (يوحنا المعمدان) نستكمل معجزات تلك الأسرة النورانية المتعبدة التى تقضى كل وقتها تقريباً فى المعبد والصلاة والعبادة، فتظهر علامات ربانية على مريم «كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ» آل عمران آية 37.وهنا بدأت الإشارات الأولى إلى الحالة الروحانية الربانية التى وصلت إليها بارتباطها بالملأ الأعلى عند الملكوت الأعلى فى السماء، وترعاها الملائكة بتكليف من الله، حتى إن الملائكة كلفها الله أن تحمل لها موائد من السماء، ولم لا فإن ابنها عيسى سيطلب من الله مائدة كاملة للحواريين «قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاء تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» سورة المائدة آية 114.وهكذا كان حوار مريم وحوار عيسى وحوار جبريل، حواراً ثلاثياً ملائكياً لا ينتمى لعالم البشر إلا أننا نعرف إنذار الله لنا أن نظن أنهم ملائكة، فقد أنذرنا الله أن نظن أنهم ملائكة بل هم بشر جعلت التقوى منهم شبه ملائكة «إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ» آل عمران آية 59.أى لماذا تعجبون وقد خلق الله آدم من تراب، وخلق حواء من ضلع آدم، وخلق عيسى بدون أب، وخلق يحيى من أب طاعن وأم عقيم.فكان حوار مريم فى عدة موضوعات:1- انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا (أى اتخذت موقعاً بعيداً عنهم).2- مَكَاناً شَرْقِياً (بيت لحم) شرق القدس.3- فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً (خيمة مغلقة).4- فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا (الروح فى القرآن اسم جبريل) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ.5- تحول جبريل من ملاك إلى بشر كامل البشرية (بَشَراً سَوِياً).6- استعاذت منه بالله (إِنِّى أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ) أى أحق دعاء للحماية من السوء أن تدعو باسم الرحمن دون غيره من الأسماء فى موقف الخوف الشديد.7- إِن كُنتَ تَقِياً (تدعو الله أن يجعله تقياً حتى لا يفعل معها الشر فهى تعلم أن التقوى من الله ولذلك تمنت أن يكون الله قد أرسل لها تقياً أى ليس شيطاناً).8- فكشف الملاك البشر عن أنه ليس بشراً وإنما ملاك فقال أنا مجرد رسول من الله مباشرة لكِ.9- وأنه جاء ليهبها غلاماً (بتعبير دقيق إنه غلام وهبة من الله لها ولم يقل لها ننجب فيك غلاماً وإنما لأجلب لك غلاماً زكياً، أى طاهراً، فالزكاء هنا ليس ذكاء عقل، وإنما تزكية، نقاه من أى سوء).10- اطمأنت مريم لحديثه وصدقت أنه ملاك فقالت: كيف يكون لى غلام دون زواج أو علاقة إثم بدون زواج (وَلَمْ أَكُ بَغِياً)؟ فهاتان حالتان إما زواج أو علاقة بدون زواج أنجبت الولد.11- حسم جبريل الأمر: هذا أمر الله هو أمر يسير وهين، وأضاف جبريل أنه اختيار الله أن يأتى منها وبدون زواج حيث يكون ميلاده معجزة كبرى (آيَةً لِلنَّاسِ) لكل الناس من كفار، ويهود، وأقباط، ومسلمين، ورحمة منا (المسيح رحمة لمن عاصره، ورحمة لأتباعه الأقباط حتى يوم القيامة) وهذا أمر إلهى سواء رضينا أم لم نرض (وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِياً).12- استسلمت مريم (فَحَمَلَتْهُ) فانتبذت بحملها (وليس مولودها فهو لم يولد بعد فهو جنين فقط) فَانتَبَذَتْ (بِهِ) أى بحملها وليس بولدها مكاناً قصياً (لاحظ الصلة بين قصياً والمسجد الأقصى) فى إشارة إلى قرب مكان ولادتها من البيت الأقصى أو المسجد الأقصى، قصياً.13- جاء وقت المخاض فجلست تستظل تحت جذع النخلة وهى وحيدة لا سند ولا معين وليس من حقها أن تصرخ أو تبكى كما يحدث مع كل من تلد، ولا أم ولا أخت معها فتمنت الموت من شدة الكرب، وقالت جملة تبكى كل من يقرأ هذه الآية (قَالَتْ يَا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِياً). إنها مريم البشرية تبكى مثل نساء الأرض فى الولادة (كما تقول كل امرأة تلد خلصونى ولو أموت).14- ثم كانت المحنة الكبرى بعد ولادتها، حيث أتت قومها تحمله، تخيل بنتاً صغيرة تغيبت ثم تعود لمنزلها وهى تحمل وليدها دون إشهار زواج (وطبعاً كان الرد عنيفاً وقاسياً).15- كان رد الأهل والجيران ورهبان المعبد من اليهود (لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِياً) أى جريمة كبرى لا تغتفر وكبيرة لن تغفر لك، ثم على طريقة أهل الريف حتى الآن إنك مثل هارون شقيق موسى فى العبادة والخضوع والخشوع لله كيف تكونين مثل هارون فى الطاعة والتقوى وتفعلين المنكر ولم تقتدى بأبيك عمران راهب المعبد، الذى لم يكن امرأ سوء، ولم تكونى مثل أمك امرأة عمران التى كانت مثلاً للتقوى، ولم تكن أبداً بغياً سيئة الخلق أو قليلة الدين.16- فنظرت إليهم وإلى المولود الذى بين يديها وسقط منها كل الكلام وغابت عنها كل الحروف وكل اللغات ولم تستطع أن تنطق شيئاً، هى فقط أشارت إلى المولود (بوحى من جبريل) وفوجئت هى كما فوجئ كل الحاضرين وكل من سمع حكايتها أن الوليد يتكلم، وكان هذا أول إعجاز من معجزات سيدنا عيسى أنه تكلم وهو رضيع فى لفة القماش (فى المهد) صبياً، وهنا نعرف أن الصبى ليس الفتى، وإنما الطفل المولود الرضيع (مَن كَانَ فِى الْمَهْدِ صَبِياً) وتلك قصة عيسى ومعجزاته سنتناولها فى مقال آخر.