إلغاء إعمال العقل على مدار نحو نصف القرن، والإصرار على محاربة كل ما من شأنه أن يزرع بذور التفكير النقدى فى التعليم والإعلام والدراما والثقافة، والشعبوية الحنجورية الممسكة بتلابيب معتنق العنعنة، أبرز ما يميز نقاشنا الدائر عن «أصحاب ولا أعز».
النقاش والاختلاف ووقوف فريق مع محتوى الفيلم وآخر ضده وثالث لا يعنيه المحتوى بقدر ما يعنيه عدم فرض الوصاية، ورابع يعنيه المحتوى ويطالب بمقص الرقيب إلخ، أمور محمودة وعلامة جيدة على أن الناس تفكر وتختلف. لكن غير المحمود أن يعتقد البعض أن حريته هى سلب الآخر حريته، أو أن مفهومه عن حماية الفضيلة يعنى الاستعانة بعصابة سوداء لإحكام ربطها على عيون نحو 103 ملايين مصرى ومصرية حتى لا يروا ما يجرى حولهم وما يعرض على الشاشات التى يمسكونها بأياديهم. وغير المحمود أن يخرج من يمثل الشعب، سواء نيابياً أو إعلامياً، ليطرح أفكاراً من شأنها أن تمعن فى تجذير أوهام وخيالات. فمن يعتقد مثلاً أن المقبل على الانتحار هو بالضرورة جانٍ ينبغى معاقبته بالقانون والسجن والغرامة يطرح علامات استفهام وبالطبع تعجب حول معلومات النخب عن أمور علمية ونفسية وإنسانية.
المتابع لما يدور من نوبات هستيرية للدفاع عن الفضيلة فى المجتمع المتدين بالفطرة، الملتزم أخلاقياً بالسليقة، الذى لا يأكل حق صاحب ميراث، أو يسكت على تحرش بإناث، أو يتغاضى عن استيطان مفهوم الرشوة فى العقل الجمعى، أو يتعامى عن لكلكة فى عمل أو انعدام ضمير لدى مدرس لا يشرح فى المدرسة، لكن يتفانى فى الشرح فى السنتر، وموظف لا يؤدى عمله إلا بدرج مفتوح زاخر بما لذّ وطاب من رشاوى البسطاء، شرطاً لإنجاز المعاملات، أو يعمل من بنها أمام حوادث سير قاتلة سببها فى الأساس بشرى، حيث لا تطبيق لقوانين المرور من المنبع وغيرها، يتملكه شعور أنه أمام مجموعتين بشريتين لا تمتان إلى بعضهما البعض بصلة.
دعك من أن حراس الفضيلة انتفضوا لمشهد ما لمنى زكى، ولم تعكر صفو فضيلتهم خيانة زوجية مثلاً. ودعك من أن الفضيلة القابلة للتجزئة لا يمكن تسميتها فضيلة. لكن الجدل الدائر يعكس مفاهيم متمكنة من أغلبنا تحتاج إلى مراجعة. وهذه المفاهيم لا تتعلق بما ورد فى الفيلم -الذى يتربع على قمة الأفلام الأكثر مشاهدة على «نتفليكس» فى مصر بفضل غضبة حراس الفضيلة التى جعلت سيرته على كل لسان- بل تتعلق بالمنطق والنظرة للأمور ومفهومنا عن الفقاعات.
الطبقات غير المخملية غالباً تلوم القابعين أعلى الهرم الطبقى بأنهم يعيشون فى فقاعة تفصلهم عن واقع الحياة. يعيشون فى كومباوند، ويمضون الصيف فى الساحل، ويتعلم أبناؤهم فى مدارس دولية فتفصلهم فقاعتهم العظمى عما يجرى حولهم. ورغم ذلك يعتقد كثيرون أن فى الإمكان حشر المصريين جميعاً فى فقاعة مماثلة، ولكنها ليست فقاعة اقتصادية أو اجتماعية، بل فقاعة تفصلهم عما يجرى حولهم فى العالم. يعتقدون أن فصل المصريين عن الواقع يحميهم من السلوكيات الجنسية الخاطئة (لاحظ طبعاً هيمنة الهسهس الجنسى على التفكير وارتباط الفضيلة بالجنس فقط لا غير). المطالبون بالتثقيف والتسليح عبر التنشئة القويمة المنطقية وليست القشرية المظهرية مخوخة المضمون، التى تمكن الجميع من التفكير المنضبط واتخاذ القرارات السليمة قلة. علمنى كيف أفكر، لأن إصرارك على أن تلقنى ما الذى أفكر فيه يقودنا إلى الهاوية.