فى هذه الزاوية تحديداً، وعلى مدى أسبوعين بمنتصف أكتوبر الماضى، تساءلت عن الرجال حول الرئيس أين هم، وشاركنى العديد من الأصوات نفس الطرح وبعضاً من الهواجس الخاصة بالطاقم المعاون للسيد الرئيس. وكان الحديث فى حلقته الأولى منصباً حول الدائرة الضيقة بجوار الرئيس، خاصة أن اللحظة التاريخية فى مشهدها الإقليمى والدولى لا تخطئ العين مدى ثقلها وتعقيداتها، ولذلك طالبت مباشرة بتفعيل دور مجلس الدفاع الوطنى وتعيين مستشار للأمن القومى لمتابعة وتقييم هذا الملف المتخم بالتهديدات اليومية.
الأمر، كما أسلفنا، تردد بقوة فى منتصف أكتوبر. ومع بداية نوفمبر صدرت ثلاثة تعيينات مهمة، للدكتورة فايزة أبوالنجا مستشارة للأمن القومى، وللواء أحمد جمال الدين مستشاراً للأمن ومكافحة الإرهاب، وللسفير خالد البقلى أميناً عاماً لمجلس الأمن القومى، قابلت هذه القرارات بارتياح وتفاؤل فى موضعه، فالمناصب كان وجوب شغلها الآن ملحاً، والأسماء المعينة تدعو لكثير من الاحترام، فكل منهم يحمل تاريخاً وظيفياً مشرفاً يؤهله بجدارة لحمل الملف الموكل إليه، ويجتمعون على ميزة مطلوبة للعمل داخل ديوان الرئاسة هى أنهم يمتلكون رؤية حقيقية تشكّلت على مدار سنوات العمل كل فى مجاله، وبدا إفلاتهم من شوائب عصور سابقة عنواناً وضعهم فى خانة المسئول المحترف، فلم يستطع منتقدو اختيارهم وصمهم به بأى صورة.
لو بدأنا بالأقرب من الرئيس يكون أولاً مستشار الأمن القومى الذى نظن فيه أن فايزة أبوالنجا قادرة على تقديم تصورات وتقييم وتقديرات موقف للعديد من الملفات الدولية الضاغطة الآن على كاهل الرئاسة، ومطلوب منها إدارتها بأسلوب البحّار الذى يقود سفينته وسط أنواء عاصفة فى بحر ملىء بالصخور، ملف مياه النيل مع إثيوبيا ومن خلفه دول الحوض بامتداد أفريقى شائك تدفع فيه الرئاسة ضريبة أعوام من التراجع، ثم الملف الليبى حيث وجدت مصر أمامها معضلة التعامل مع أهم دول الجوار وهى تتهدد فى وجودها، ويتداخل هناك كم من الصراعات الإقليمية والدولية التى تدفع الدولة الليبية إلى التشرذم وشبح التقسيم، والملف الذى بدأت الرئاسة المصرية التعامل معه فعلياً هو علاقاتنا المتشابكة مع الاتحاد الأوروبى الذى يضم العديد من دول القارة مختلفة الاتجاهات، والاتحاد الأوروبى بدوله متداخل معنا بصورة قوية فى العديد من القضايا، وشغلت فايزة أبوالنجا منصب مندوب مصر الدائم فى مقر الأمم المتحدة بجنيف، وسط هذا المعترك تماماً، ولديها علم دقيق بكل تفاصيل وتوازنات القارة بأكملها، ودعمت هذا العلم من خلال منصبها فى وزارة التعاون الدولى، ففيه ترجمت هذا العلم إلى إطار تنفيذى مشترك مع معظم حكومات وهيئات هذا المحيط البالغ الحيوية بالنسبة لنا، خطوة بداية التعامل الواعى لمؤسسة الرئاسة مع الملف الأوروبى عبّرت عن نفسها فى لقاء الرئيس مع رئيسى اليونان وقبرص بالقاهرة، وما نتج عنها هو تنشيط للكروت المصرية القادرة على مواجهة حلف تركيا ومَن وراءها، فضلاً عن العديد من المكاسب الاقتصادية وضمان وجود صوت مصرى مسموع داخل الاتحاد الأوروبى يدفع ناحية المصالح المصرية.
لمنتقدى الأداء الرئاسى بغية الوصول للأفضل أذكّر بأن منصب مستشار الأمن القومى لمن يعتمده من النظم السياسية الحديثة، يخرج شاغله دوماً من «مدرسة الدبلوماسية»، وهو منصب يتطلب وضوح الرؤية والقدرة على تقييم المواقف الدولية، لذلك حقيقة لم أقف طويلاً عند ما تردد عن صفعة مصرية لأمريكا باختيار أبوالنجا للمنصب الرفيع، فقد بدت كصورة ضيقة لما هو أكثر رصانة وأهم عند الرئاسة المصرية، كما لم تساورنى نفس شكوك الخلفية العسكرية الواجب توافرها لمن يشغل هذا المنصب، فالمهمة أكثر اتساعاً ومحمّلة بقدر كبير من التفاصيل الدبلوماسية الأهم، وتبقى الاعتبارات الأمنية والعسكرية حاضرة ومتكاملة عند الرئيس نفسه الذى يمتلك تحديد المسارات وسلطة إصدار القرار.