استقبلت كل الأحزاب دعوة الرئيس عبدالفتاح السيسى لإجراء حوار وطنى حول أولويات العمل خلال المرحلة الراهنة بإيجابية تتفق وأهمية الدعوة، وهى فرصة أتاحها رأس النظام الحاكم للجميع للمساهمة فى بناء الجمهورية الجديدة، ولكن بعض الأحزاب التى يضمها تكتل يسمى «الحركة المدنية الديمقراطية» أظهرت موقفها من الدعوة عبر بيان يمكن وصفه بأشد العبارات تأدباً بأنه من قبيل «المراهقة السياسية».
البيان تذيله توقيع سبعة أحزاب من بينها حزبان تحت التأسيس -وعبارة تحت التأسيس هذه تستحق أن نضع تحتها عشرات الخطوط، لأن الحزبين لم ينجحا على مدى عشر سنوات فى الحصول على توقيعات الحد الأدنى من المؤسسين- كما تضمن البيان توقيع من وصفهم بالشخصيات العامة أعضاء الحركة، ولم يذكر اسماً واحداً من هذه الشخصيات العامة!.
الأحزاب السبعة تفضلت مشكورة على النظام وعلينا وعلى الشعب المصرى كله، بقبول مبدأ «الحوار السياسى» مع السلطة.. ولكن بشروط صاغتها بعبارات تدغدغ المشاعر وتقشعر لها الأبدان ويشيب معها شعر الوليد.
أول هذه الشروط وجاء فى الديباجة باعتباره إشارة لازمة على الجدية، هو «رفع الظلم عن جميع سجناء الرأى باعتبار أن ذلك حق لهم وأسرهم وأحبائهم، بل إنه حق لمصر التى أرق ضميرها هذا الوجع»، رأت تلك الأحزاب أن تضع ذلك الموضوع كشرط للحوار، ولم تضعه مثلاً كمحور للنقاش يمكن الخروج منه بتوصية لإدخال تعديلات على قانون الإجراءات الجنائية للتعامل مع المحبوسين احتياطياً ومن بينهم من وصفوهم بسجناء الرأى.
هذا الشرط تحديداً يعبر بوضوح عن قصور سياسى لا يليق بقيادات سياسية يحمل بعضها على كتفيه 50 عاماً من «النضال»، فالمكسب الأهم هو التعديل التشريعى الذى يستفيد منه من وقعوا تحت طائلة القانون الآن، ومن سيقعون تحته لاحقاً، لكن هؤلاء يفضلون منحة رئاسية لمرة أو لمرات يستفيد منها فقط بضعة أنفار من أصحاب رؤساء الأحزاب والنشطاء.
البيان تضمن عدة شروط أخرى ما يستحق التعليق من بينها أن يكون الحوار تحت مظلة مؤسسة الرئاسة لضمان تنفيذ ما يمكن أن يتم الاتفاق عليه خلال الحوار، وكأن من كتبه نسى أن الدعوة للحوار أطلقها الرئيس بنفسه، وكلف الأكاديمية الوطنية للتدريب بمهمة الإعداد والتنظيم، وهى -الأكاديمية- تابعة لمؤسسة الرئاسة مباشرة، وكان يمكن للرئيس إسناد المهمة لمجلس الشيوخ الذى أوكلت له المادة (248) من الدستور «دراسة واقتراح ما يراه كفيلاً بتوسيد دعائم الديمقراطية ودعم السلام الاجتماعى والمقومات الأساسية للمجتمع وقيمه العليا والحقوق والحريات والواجبات العامة وتعميق النظام الديمقراطى وتوسيع مجالاته»، وأكدت الأكاديمية فى بيان رسمى عرض مخرجات الحوار على رئيس الجمهورية، إذاً فالشرط متحقق وكان الأولى أن يكون محل ترحيب.
هناك شروط أخرى شكلية تضمنها البيان لكنها -فى تقديرى المتواضع- لا تستأهل التعليق.
وحتى لا يتسرب اليأس والإحباط إلى البعض من فكرة وجود حياة حزبية فى مصر، هناك أحزاب أخرى جديرة بالتقدير، وخلال الأيام الماضية تابعت -على سبيل المثال وليس الحصر- تصريحات سيد عبدالعال رئيس حزب التجمع مرحباً خلالها بالمشاركة فى الحوار، واقترح ضمانات -وليست شروطاً- لنجاح الحوار، من بينها عدم وضع شروط مسبقة من أى طرف للمشاركة، وأن يتسع الحوار ليشمل كل القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تجزئة أو انتقاء، وألا يتعمد أى من المشاركين لجر الآخرين لاتجاه محدد يتفق وتصوراته وحده، أو الخروج بمكاسب منفردة، وفى المقابل لا تتورط الحكومة فى استخلاص النتائج مسبقاً، وألا تتصور أنه فرصة لإضفاء شرعية على سياسات ليست محل اتفاق من الجميع، أو الحصول مقدماً على تأييد سياسات تنتويها.
وفى مواجهة الأقوال المتهافتة حول اضطرار النظام لإطلاق الدعوة للحوار الآن تحديداً لأنه «مأزوم»، أوضح رئيس «التجمع» أن الحزب يرى أن تلك الدعوة تأتى فى سياقها الطبيعى كمرحلة ثالثة لاحقة لمرحلتين سابقتين مرت بهما مصر عقب ثورة 30 يونيو، الأولى مواجهة الإرهاب، والثانية إنجاز البنية الأساسية «الضرورية» للانطلاقة التنموية المرجوة.
«التجمع» هنا قدم نموذجاً لكيفية التعامل مع حدث سياسى كبير بمسئولية وطنية ونضج سياسى يتفق مع تاريخه كأكبر وأهم فصيل يسارى فى مصر.
الحوار الوطنى سيبدأ، ونتوقع له النجاح، وستنطلق الجمهورية الجديدة بمشاركة من يتمنى أن يرى مصر دولة مدنية ديمقراطية حديثة، أما من لا يرغب فأقول له: نلتقى بعد الفاصل.