كلما تابعت تاريخ الدعوة الإسلامية فى القرن العشرين فى أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكتين، تجد اسم الملك فهد بن عبدالعزيز بارزاً، فهو صاحب البصمة الكبرى فيها.
قلت لنفسى: هذا الملك العظيم بسط يده بهداية الخلائق وتعليمهم الدين والإسلام فى هذه الربوع الشاسعة، وفى المقابل وجدت أكثر الناس لا يعرفون عنه شيئاً، بل إن صورته مشوشة عند معظم المتدينين والحركات الإسلامية، رغم أن له أيادى بيضاء على مصر فقد منحها القمح الذى احتاجته مجاناً فى عهد مبارك.
كان الملك فهد يدرك، مثل من سبقوه، أن السعودية تختلف عن أى دولة فى العالم؛ ففيها الحرمين الشريفين، وفيها أعظم مدينتين مقدستين فى العالم، وهى الدولة الوحيدة التى يفرض على أكثر من مليار مسلم أن يحجوا إليها مرة فى العمر على الأقل ومرات للعمرة، وهذا يفرض عليها التواصل الإيجابى السلمى مع مسلمى العالم كله دينياً وثقافياً واجتماعياً وإنسانياً، دون التدخل فى الشأن السياسى لها.
وهذه مساحات دقيقة تحتاج إلى ملك من طراز الملك فهد، الذى كان ينوب عن والده وهو صغير فى لقاءات زعماء القبائل، وشغل معظم الوزارات «التعليم الأوقاف والخارجية - ولاية العهد»، قبل المُلك، الذى كان يرى أن الشهادة العلمية أساسية ولكن عقل الإنسان أهم، أما خبرة الحياة فهى الجامعة الكبرى، وأن بلاده تُبنى على عنصرين «التوحيد والتوحد»، وأن الأماكن المقدسة منبر تقوى لا منبر سياسة، وأن بلده الصامد الصابر لم ولن يُستعمر أبداً.
وهو أول من تسمّى بخادم الحرمين، فقد رفض كلمة «جلالة الملك»، وأعطى أمراً بتعميم كلمة خادم الحرمين، وقال فى منى: «لا يقول أحد صاحب الجلالة، الجلالة لله عز وجل، خادم الحرمين الشريفين أفضل عندى من أى شىء»، وصدق فى خدمته للحرمين فأكبر توسعة فى تاريخها تمت على يده، وكان يقول: «خادم الحرمين مفخرة، ولا يزيدنا اسم ملك أو أمير شيئاً، والصالح يفرض محبته على القلوب والفاسد لا ينفع بشىء».
وكان يردد: «نحن المسلمين لسنا دعاة حرب وفرقة، بل طلاب وحدة ووئام، لسنا معاول هدم ودمار، بل سواعد بناء ونماء وحضارة، والسلام فى ديننا لا يعنى الاستسلام، فنحن أمة تأبى الضيم وتنشد العدل، وكان يحزن لفرقة العرب والمسلمين ويحاول رأب الصدع ويضحى بأموال بلاده للإصلاح بين العرب دون جدوى».
وكان يردد بأسى: «الإنسان العربى والمسلم أصبح يدور حول نفسه بعد أن ضاع أو كاد يضيع من قدمه الطريق السوى»، وكان يحزن للعدوان الصهيونى المتكرر على فلسطين وينصرهم بكل ما أوتى من سبيل، وكان يسمى فلسطين «الأرض المباركة»، وكان يرى أن الغرب هو السبب فى رفع سعر البترول وكل السلع، وكان يردد: «التضامن الإسلامى جوهر استراتيجيتنا وسر تقدمنا»، ويرى أن النصح أجمل وأرقى من التشهير، ويرى أن الله اختار الشعب السعودى لخدمة الحرمين الشريفين وشرَّفه بذلك، وأنه جدير بذلك.
وقد عاش الملك فهد قرابة 85 عاماً كانت كلها صعبة، وكان قوياً فى اتخاذ القرار، وهو يعد أقوى ملوك السعودية بعد الملك فيصل، الذى كان له الموقف العربى الأعظم فى مساندة مصر فى نصر أكتوبر عام 1973 ودفع حياته ثمناً لذلك، وهو الذى أنشأ مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف فى المدينة المنورة.
وهو أول من وضع دستوراً للسعودية، وكان له الدور الأبرز فى استضافة حكام الكويت والمساهمة فى قرارات تحريرها، وأول من طرح مبادرة سلام بعد كامب ديفيد لحل الصراع العربى - الإسرائيلى رداً على مبادرة الشرق الأوسط الكبير التى طرحتها أمريكا وقتها ورفضها مع العرب جميعاً، وهو الذى دعّم «صدام» لسنوات حتى غدر العراق بالخليج الغدرة الكبرى باحتلاله للكويت، وهو الذى وقف إلى جوار لبنان بعد الغزو الإسرائيلى لها.
وهو الذى قام بأكبر مشروع لترميم المسجد الأقصى، وحمل هم القدس فى قلبه وضميره متأثراً بشقيقه الملك فيصل، الذى كان يعتبر صلاته فى المسجد الأقصى المحرر أمنيته الكبرى.
ودفع أكبر تبرع لـ«اليونيسكو» لإنقاذ المسجد الأقصى من التصدع والتلف، وكان يقدم كل عام 28٫3 مليون دولار دعماً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأشرف على جمع 8 مليارات ريال سعودى تبرعات شعبية سعودية لدعم الانتفاضة الفلسطينية، وقدم 300 مليون دولار أمريكى على مدار 3 سنوات لدعم وإنماء الاقتصاد الفلسطينى، وكان يقوم بدفع دعم شهرى للانتفاضة الفلسطينية الأولى بواقع 6٫2 مليون دولار.
كان الملك فهد أشبه بالملك فيصل شقيقه؛ عاشا معاً قضية فلسطين من بدايتها، كانت القدس همّاً مشتركاً بين الملكين، وهما أعظم ملكين سعوديين وقفا إلى جوار فلسطين والقدس.
ولولا الصراع الإيرانى العراقى، أو اجتياح «صدام» للكويت، لكان لهما دور أكبر وأبرز فى هذه القضية، فقد شغل الحدثان الأمة العربية كلها عن قضيتهم الكبرى فلسطين، وهذا أشعل الصراع السنى - الشيعى الذى أكل المنطقة العربية كلها ودمر القضية الفلسطينية.
أما دور الملك فهد فى الدعوة الإسلامية العالمية فقد بنت السعودية فى العالم قرابة 1359 مسجداً كبيراً معظمها بُنى فى عهد الملك فهد، كما أنشأ 210 مراكز إسلامية فى القارات الخمس.
كما أنشأ أهم الكراسى العلمية؛ أهمها كرسى الملك فهد للدراسات الشرعية الإسلامية بحقوق جامعة هارفارد، وآخر مثيل له بجامعتى لندن وواشنطن، وأنشأ كذلك عدداً من الأكاديميات الإسلامية فى لندن، وروسيا، وهى أعظم أعماله، وكذلك بون، وطوكيو، وكوريا الجنوبية، ومعاهد إسلامية فى واشنطن وإندونيسيا ونواكشوط وجيبوتى.
رحم الله خادم الحرمين الملك فهد وجزاه عن الحرمين وبلاده وفلسطين والعرب خيراً.