بمجرد أن أطلق الرئيس عبدالفتاح السيسى دعوته للحوار الوطنى تساءل الكثيرون: ما ضمانات جدية الحوار؟ وكانت الإجابة الوحيدة لعدة أيام أن الضمانة الأهم هى دعوة الرئيس بنفسه للحوار، واعتدنا منه -الرئيس- النجاح فى غالبية الملفات التى تطرق إليها، وبطبيعة الحال ظهر فريقان؛ حسنو النية اقتنعوا بالإجابة، وتشبث آخرون بموقفهم المتصلب المتمثل فى توقعاتهم المرجحة للفشل، وما هى إلا أيام حتى تلقى المدعوون للحوار بطاقات المشاركة متضمنة نصاً فى منتهى الأهمية يطالب المشارك بتقديم رؤيته متضمنة مقترحاته لمحاور الحوار ومحدداته وآليات عمله وأجندته، وبهذا ظهرت ضمانة أخرى للجدية تدعم الإجابة عن السؤال، وتؤكد توافر الإرادة السياسية الداعمة للحوار.
كل تلك المشاهدات والأسئلة والإجابات لا بأس بها فى سياقها النظرى المصاحب لدعوة الرئيس، ولكن الأثر الإيجابى العملى والمباشر للحوار، الذى لم يبدأ فعلياً حتى الآن، ظهر وبوتيرة متسارعة فاقت التوقعات.
رأينا أحزاباً ونقابات ومنظمات أهلية وجامعات شكلت لجاناً للإعداد للحوار، وعقدت لقاءات ومؤتمرات مشتركة لمناقشة موضوعات محددة ينوون طرحها للحوار الرسمى، وواكب الإعلام الرسمى -وغير الرسمى- تلك الحالة باستضافة رموز كل الأطياف السياسية المؤيدة والمعارضة، وكل ذلك على الهواء مباشرة، يعنى لا مونتاج ولا اجتزاء للآراء، بالبلدى كده.. على عينك يا تاجر.
المشهد العام حتى الآن على قدر ما يدعو للتفاؤل، فهو يفرض مسئولية مضاعفة على كل الأطراف، ليس المدعوين للحوار، إنما الدولة أيضاً بكل مؤسساتها، الكل ملزم بالاستعداد الجاد، لا يكفى أن يطرح أحد عناوين -مجرد عناوين- أو تستميله شعارات لدغدغة مشاعر الرأى العام، أو يرى فى المناسبة فرصة لتوجيه رسائل لأطراف خارجية تترقب وربما تتمنى فشلنا.
أتمنى أن يرى الجميع الحوار الوطنى باعتباره فرصة لتبادل الأفكار وتقريب وجهات النظر، والخروج بأفكار جديدة، وتطوير السياسات الحالية أو حتى طرح سياسات بديلة تدعم التوجه العام لجمهورية 30 يونيو، وتدعم طموحاتنا أيضاً فى أن نرى مصر دولة (مدنية ديمقراطية حديثة) بكل ما تحتويه الكلمات الثلاث من معانٍ، وما تتضمنه من تفاصيل ومفردات.
الحوار ليس مجرد «مكلمة» أو «فض مجالس»، لكنه فكرة تناولتها عدة علوم إنسانية مثل علم الاجتماع السياسى والفلسفة والمنطق وحتى علم الإدارة العامة، وكلها عبر صياغات مختلفة أجمعت على أن الحوار الصحيح الجيد هو فن مناقشة وتبادل الأفكار والآراء مع الآخر مباشرة، بعقلانية واحترام لتوضيح ما هو قائم أو لحل المشكلات بنجاح.. وكل هذا لا يتم طبعاً إلا باستخدام أسس وقواعد الإقناع المنطقى بهذه الأفكار والآراء..
وحتى لا ينزلق المتحاورون إلى المهاترات والشجار بسبب التعصب أو الجهل أو الانفعال العاطفى، عليهم فقط الالتزام بقواعد وأسس الحوار الصحيح والسليم.. وهى ببساطة تتلخص فى عدة نقاط:
توضيح الموضوع المطروح للنقاش، وشرح المصطلحات المستخدمة فيه وتوضيح المفاهيم المبهمة حتى لا يتحول إلى حوار طرشان.
ضرورة الإلمام بجميع جوانب وتفاصيل الموضوع المطروح للحوار واستيعاب رأى الآخر جيداً.
أن يدور الحوار حول الأفكار والوقائع الملموسة وليس حول الأشخاص والهجوم عليهم، وانتقاد الفكرة -إذا لزم الأمر- دون المساس بشخص من طرحها.
أن يدرك المتحاورون أن الغاية من الحوار ليست أن يتغلب أحدهم على الآخرين، وأن يركز الجميع على الوصول للهدف. الالتزام بموضوع الحوار، وعدم الانتقال من نقطة إلى أخرى إلا بعد الانتهاء من الأولى.
تجنب الوقوع فى أسر الانفعال والتوتر، وأن يعلم الجميع أن لكل موضوع أكثر من وجهة نظر مختلفة يجب احترامها ومناقشتها بكل هدوء ورحابة صدر.
عدم التهجم أو التسلط أو السعى للهيمنة أو التعالى على الآخر مهما كان الاختلاف، الإصغاء للطرف الآخر وعدم مقاطعته أو الاستهزاء به أو برأيه أو السخرية منه أو من كلامه، والحرص على عدم استفزازه.
اعتماد العقل والإقناع بالأدلة العلمية والحجج المنطقية، والابتعاد عن التعصب والانفعال العاطفى.
يجب التفريق بين الحجة والرأى فى سياق الحوار، ودعم الأطروحات بذكر المراجع ومصادر الاقتباسات والأرقام والتواريخ، الابتعاد عن التعميم والأحكام المسبقة والتضليل المقصود، استيضاح المبهم من كلام الآخر وعدم التسرع فى الإجابة عن كل سؤال يُطرح قبل معرفة الغاية والمقصد من السؤال.
الحوار الوطنى مؤهل للنجاح، ومن يستهدف غير ذلك فليتنحَّ جانباً إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً.