قبل أيام معدودة من وفاة «محمد»، صلى الله عليه وسلم، وأثناء أيام مرضه الأخير ثقل عليه الأمر، فقال لمن حوله: «مُروا أبا بكر فليصلِّ بالناس»، وحينها راجعته السيدة «عائشة» زوجته، تلك السيدة اللمّاحة الذكية التى ما كانت تتردد يوماً فى إبداء رأيها، وفى هذا الموقف كانت، وللعجب، تتحدث عن أبيها، وهى تعلق على أمر رسول الله، قائلة: «إن أبا بكر رجل رقيق القلب، وإنه إذا قام مقامك غلبه البكاء، فمُر (عمر) أن يصلى بالناس»، فغضب الرسول من هذا التعليق، وكرر أمره مرتين، ليتقدم الصحابى الجليل الذى كان يوصف بالأسيف البكّاء ليصلى بالناس امتثالاً لأمر رسول الله، وبعد ساعات من هذا الموقف، فيما لا يتجاوز يومين، توفى رسول الله ليقف هذا الرجل الحيى وقفة باهرة أطلقت كل مواهبه المختزنة من عقالها، ففى وقت ضرب المدينة هلع غير مسبوق، وطاشت العقول الراشدة للنبأ الذى لم يعطِ لأحد الفرصة لتشكيل عواطفه، دخل «أبوبكر» المسجد وسط هول وصخب شديد استوجبته اللحظة، ليقول بصوت صارم عالٍ أسكت كل المجتمعين: «من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات.. ومن كان يعبد الله، فإن الله حى لا يموت» قالها هكذا مباشرة وخالية من أى بهرجة لفظية أو ارتباك فى الوعى.
من قرأ التاريخ الإسلامى على ما فيه من محن وفتن كثيرة يدرك سريعاً أن هذا الموقف وما تلاه من اتفاق فى «سقيفة بنى ساعدة» على أمر الخلافة، أنقذ الدين الإسلامى وحماه من التشتت بسبب إجابات «أبى بكر» على مجموعة من الأسئلة الحاكمة، فهو لم يقع فى فخ سؤال متوقع: أين تؤسس الدولة الجديدة فى مكة أم فى المدينة؟ ومن يحكمها فى أى الوضعين؟ بل سار بالأمر مباشرة لتولى المهاجرين وهم من قريش منصب الإمارة، ويتولى الأنصار مناصب الوزراء وهم أهل المدينة التى ستظل العاصمة السياسية وتحتفظ مكة بكونها المدينة الدينية، وبايعه كبار الصحابة ومشايخ الأنصار لتولى مهمة الخلافة، ليبدأ عصر جديد لم يتجهز له أحد ولا هو شخصياً.
وفى خلال أيام معدودة استكمل إجابات باقى الأسئلة التى شكلت أحداث عامِه الأول فى الخلافة، فقد أمر بتجهيز الجيوش فوراً لقتال «المرتدين» الذين خططوا بمساعدة قوى خارجية «الفرس والروم» لزعزعة وتقويض الدولة الإسلامية الوليدة استغلالاً لوفاة رسول الله، وأمر باستكمال خروج جيش أسامة بن زيد الذى كان يتهيأ للذهاب إلى الشام والعراق، ليضع الأمور فى نصابها بأقصى الشمال، حيث كانت الروم والفرس تتخذان منهما مراكز وثوب وأوكار مؤامرة، قدر «أبوبكر» أن الأمر يحتاج هناك لظهور قوة الإسلام العسكرية حتى وهو تحت ضغط حروب الردة الداخلية.
كل ما سبق عبره الرجل بنجاح منقطع النظير، فضلاً عن ترتيب كل لوغاريتمات المدينة من الداخل، وهو من وصفه الرسول يوماً بأنه «أمة وحده»، لم يتوقع أن يكون هناك من هو أشد حزناً وألماً لوفاة رسول الله من صديقه المقرب «ثانى اثنين»، لكن ولأنه أمة حقاً فلا مجال لديه لدقيقة واحدة أن يسقط من قريب أو بعيد فى عبادة الفرد، أو عند عصر، حتى ولو كان عصر النبوة، وليس هناك ما هو أفضل تقرباً إلى الله من حماية مصائر المسلمين والدولة التى حمل كاهلها.
من يضع اليوم وطننا على هذا المفترق الملغم، بدأ من الشقاق الكبير ما بين ثورتين وعاد ليزرع عبوة ناسفة بعد الحكم على «مبارك» ومعاونيه، ويغذى اللهيب كل يوم أصوات ما أنزل الله بها من سلطان، الأمر به من الجد ما يستوجب أن يمسك العقلاء بهذه الفتنة الناشبة أظافرها فى جسد الوطن المصرى، فمن يعبد أشخاصاً وعصوراً غابرة فليذهب بهم بعيداً، فرغماً عن الجميع.. الوطن حى لا يموت.