أعتقد أن يصل الحوار الوطنى لخاتمته بحوار وطنى مستفيض ومستطيل لا ينتهى فى يوم واحد، يستغرق ٦ شهور على الأقل، لاستيعاب حجم التحديات وحجم الفرص وقدرة الدولة ومقدرات الشعب، فالشعب يتصور أن الرئيس والحكومة مثل مصباح علاء الدين؛ مجرد ما نرجو يأتينا رجاؤنا، هذا فقط فى الأحلام، وكما قالت أم كلثوم «كان حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً» ولعل فى تجربة عبدالناصر فى حواره الطويل الممتد نموذجاً لحوار وطنى شعبى مستحق ومطلوب. ولنستعرض بعضاً من جوانبه لنندهش من حجم التشابه العجيب والغريب بين حقبتى ناصر والسيسى، وهكذا قال ناصر:
لقد مضى إلى غير رجعة ذلك الزمن الذى كان مصير الأمة العربية وشعوبها وأفرادها يتقرر فى العواصم الأجنبية، وعلى موائد المؤتمرات الدولية، أو فى قصور الرجعية المتحالفة مع الاستعمار.
إن الإنسان العربى سوف يقرر بنفسه مصير أمته على الحقول الخصبة، وفى المصانع الضخمة، ومن فوق السدود العالية، وبالطاقات الهائلة المتفجرة بالقوى المحركة.
إن معركة الإنتاج هى التحدى الحقيقى الذى سوف يثبت فيه الإنسان العربى مكانه الذى يستحقه تحت الشمس.
إن الإنتاج هو المقياس الحقيقى للقوة الذاتية العربية تعويضاً للتخلف، واندفاعاً للتقدم، ومقدرة على مجابهة جميع الصعاب والمؤامرات والأعداء، وقهرهم جميعاً وتحقيق النصر فوق شراذمهم المندحرة.
والهدف الذى وضعه الشعب المصرى أمام نفسه ثورياً بمضاعفة الدخل القومى، مرة على الأقل كل عشر سنوات، لم يكن مجرد شعار، وإنما كان حاصلاً صحيحاً لحساب القوة المطلوبة لمواجهة التخلف، والسبق إلى التقدم مع مراعاة التزايد فى عدد السكان.
إن مشكلة التزايد فى عدد السكان هى أكثر العقبات التى تواجه جهود الشعب المصرى فى انطلاقه نحو رفع مستوى الإنتاج فى بلاده بطريقة فعالة وقادرة، وإذا كانت محاولات تنظيم الأسرة بغرض مواجهة مشكلة تزايد السكان تستحق أصدق الجهود المعززة بالعلوم الحديثة، فإن ضرورة الاندفاع نحو زيادة الإنتاج بأقصى سرعة وكفاية ممكنة تحتم أن يحسب لهذا الأمر حسابه فى عملية الإنتاج، بصرف النظر عن الآثار التى يمكن أن تترتب على تجربة تنظيم الأسرة.
إن كفاية الفلاح المصرى على امتداد تاريخ طويل عميق بالخبرات المكتسبة من التجربة قد وصلت فى قدرتها على استغلال الأرض إلى حد متقدم، خصوصاً إذا ما أتيحت له الفرصة للاستفادة من نتائج التقدم العلمى للزراعة، يضاف إلى ذلك أنه منذ عصور بعيدة فى التاريخ توصلت الزراعة المصرية إلى حلول اشتراكية صحيحة لأعقد مشكلاتها، وفى مقدمتها الرى والصرف، وهما فى مصر الآن ومنذ زمان طويل فى إطار الخدمات العامة.
من هنا فإن الحلول الصحيحة لمشكلة الزراعة لا تكمن فى تحويل الأرض إلى الملكية العامة وإنما هى تستلزم وجود الملكية الفردية للأرض، وتوسيع نطاق هذه الملكية بإتاحة الحق فيها لأكبر عدد من الأُجراء، مع تدعيم هذه الملكية بالتعاون الزراعى على امتداد مراحل عملية الإنتاج فى الزراعة من بدايتها إلى نهايتها.
إن المواجهة الثورية لمشكلة الأرض فى مصر كانت بزيادة عدد الملاك، لقد كان ذلك هو الهدف من قوانين الإصلاح الزراعى التى صدرت سنة ٥٢ وسنة ٦١ كذلك فإن هذا الهدف، فضلاً عن أهداف زيادة الإنتاج، كان من القوى الدافعة وراء مشاريع الرى الكبرى، والتى أصبح رمزها العتيد سد أسوان العالى، الذى خاض الشعب فى مصر صنوف الحروب المسلحة والاقتصادية والنفسية لكى يبنيه.
إن هذا السد أصبح رمزاً لإرادة الشعب وتصميمه على صنع الحياة، كما أنه رمز لإرادته فى إتاحة حق الملكية لجموع غفيرة من الفلاحين، لم تسنح لها هذه الفرصة عبر قرون طويلة ممتدة من الحكم الإقطاعى.
إن نجاح هذه المواجهة الثورية لمشكلة الزراعة، هذه المواجهة القائمة على زيادة عدد الملاك لا يمكن تعزيزه إلا بالتعاون الزراعى، وإلا بالتوسع فى مجالاته إلى الحد الذى يكفل للملكيات الصغيرة للأرض اقتصاداً قوياً نشيطاً.
إن هناك بعد ذلك كله ثلاثة آفاق ينبغى أن تنطلق إليها معركة الإنتاج الجبارة من أجل تطوير الريف:
أولها: الامتداد الأفقى فى الزراعة عن طريق قهر الصحراء والبوار.
إن عمليات استصلاح الأرض الجديدة لا يجب أن تتوقف ثانية واحدة، إن الخضرة يجب أن تتسع مساحتها مع كل يوم على وادى النيل، وينبغى الوصول إلى الحد الذى تصبح فيه كل قطرة من ماء النيل قادرة على التحول فوق ضفافه إلى حياة خلّاقة لا تهدر هباءً ولا تضيع.
والثانى: هو الامتداد الرأسى فى الزراعة عن طريق رفع إنتاجية الأرض المزروعة.
إن الكيمياء الحديثة قد لمست ثورياً طرق الزراعة وأساليبها، وذلك بواسطة الأسمدة والمبيدات الحشرية، واستنباط أنواع جديدة من البذور؛ كذلك فإن هناك احتمالات هائلة عن طريق العلم المنظم تمكن من تنمية الثروة الحيوانية، بما يمنح الاقتصاد الزراعى للفلاح تدعيماً محققاً، كذلك فإن هناك احتمالات كبيرة وراء إعادة دراسة اقتصاديات المحاصيل الزراعية للأرض المصرية، وتنويعها على أساس نتائج هذه الدراسة.
والثالث: إن تصنيع الريف اتصالاً بالزراعة يفتح فيه أبعاداً هائلة لفرص العمل، وينبغى أن نذكر دائماً أن الصناعة بالتقدم الآلى ليست فى مركز يسمح لها بامتصاص كل فائض الأيدى العاملة على الأرض الزراعية، وذلك فى الوقت الذى لم يعد فيه جدال أن حق العمل فى حد ذاته هو حق الحياة، من حيث هو التأكيد الواقعى لوجود الإنسان وقيمته، لذلك فإن مشكلة العمالة يجب أن تجد جزءاً من حلولها فى الريف ذاته وتصنيع الريف، فضلاً عن قدرته على رفع قيمة الإنتاج الزراعى، ليعزز العناصر العاملة فى الحقول بقوى جديدة من العمال الفنيين العاملين فى خدمة الإنتاج الزراعى فى جميع مراحله.
إن الصناعة هى الدعامات القوية للكيان الوطنى، وهى القادرة على الوفاء بأعظم الآمال فى التطوير الاقتصادى والاجتماعى، والصناعة هى الطاقة الخلاقة التى تستطيع أن تتجاوب مع التخطيط الواعى المدروس، وتفى ببرامجه دونما عوائق غير منظورة تصعب السيطرة عليها، ومن ثم فهى القادرة فى أسرع وقت على توسيع قاعدة الإنتاج توسيعاً ثورياً حاسماً.
ومن الناحية الاقتصادية:
ينبغى أن يكون اتجاهنا إلى آخر ما وصل إليه العلم.
إن حصولنا على أدوات العمل الجديدة المتقدمة لا يكفل لنا مجرد نقطة بداية سليمة، وإنما هو يكفل أيضاً تعويضاً عن التخلف، ويعطى الصناعة المصرية، بالجديد الذى تأخذ به، مركز امتياز يعوض التقدم الصناعى الذى بدأ فيه غيرنا، فى وقت لم تكن فيه آلات الإنتاج قد وصلت إلى ما هى عليه الآن من تفوق، وينبغى فى هذا المجال أن يطرح الرأى القائل بأن استخدام الآلات الحديثة سوف لا يفتح المجال كاملاً للعمالة، باعتبار أن هذه الآلات الحديثة، خصوصاً بالتقدم الذى وصلت إليه، لا تحتاج إلى قوة عمل واسعة، إن ذلك الرأى قد يكون صحيحاً فى المدى القريب، ولكن أثره يتلاشى تماماً فى المدى الطويل، فإن الآلات الحديثة قادرة بسرعة على توسيع قاعدة الإنتاج، وهذا هو الذى يكفل بدوره غزو الآفاق الجديدة فى التصنيع، وبالتالى يتيح فرصاً أوسع للعمالة.
إن مجالات العمل الصناعى فى مصر ليست لها حدود.
إن الصناعة المصرية تقدر أن تمد العمل المبدع الخلاق إلى أقاصى الأرض المصرية.
ومن الناحية الاجتماعية، فإن الصناعة مسئولة عن إقامة التوازن الإنسانى الذى لا بد منه بين مطالب الإنتاج واحتياجات الاستهلاك.
إن الصناعة الثقيلة هى دون شك القاعدة الثابتة للكيان الصناعى الشامخ، لكن بناء الصناعات الثقيلة مع الأولوية المحققة التى يجب أن تمنح له، لا يجب أن يوقف التقدم نحو الصناعات الاستهلاكية.
إن مكانة العمال فى المجتمع الجديد لم يعد لها الآن من مقياس غير إنجاح عملية التطوير الصناعى، وغير طاقتهم على العمل من أجل هذا الهدف، وغير كفايتهم فى الوصول إليه.
إن التوسع فى طاقات القوى المحركة، وفى إقامة هياكل الإنتاج الرئيسية؛ هو أساس الانطلاق نحو الأهداف الجديدة للإنتاج فى الزراعة وفى الصناعة معاً.
إن الوطن كله ينبغى أن تغطيه بكفاية شبكات السكك الحديدية والطرق والمطارات، فإن سهولة المواصلات ويسرها تستطيع أن تقوم بالمعجزات فى تحقيق الوحدة الإنتاجية فى الوطن، ومن ثم تؤدى إلى وحدة الرخاء على أرضه، دون عزلة تفرض على أجزاء منه.
إن اهتماماً خاصاً يجب أن يوجه إلى الصناعات البحرية فى بلد يقع فى قلب العالم البحرى، ويطل على أعظم بحاره أهمية من نواحى الاقتصاد والسياسة وهما البحران الأبيض والأحمر.
إن قوانين يوليو الثورية العظيمة سنة ٦١ لم تكن تستهدف القضاء على القطاع الخاص، وإنما كان لها هدفان أساسيان:
الأول: خلق نوع من التكافؤ الاقتصادى بين المواطنين، يحقق العدل المشروع، ويقضى على آثار احتكار الفرصة للقلة على حساب الكثرة، ويسهم فى الوقت نفسه فى عملية تذويب الفوارق بين الطبقات.
والثانى: زيادة كفاءة القطاع العام الذى يملكه الشعب، وتعزيز قدرته على تحمل مسئولية التخطيط، وتمكينه من دوره القيادى فى عملية التطوير الصناعى على الأساس الاشتراكى.
إن الاستثمارات الجديدة التى توجه الآن للصناعة تساوى أكثر من مائة مرة ما كان يوجه منها فى سنوات ما قبل الثورة.
إن إعادة توزيع الثروة لا تعرقل طريق التنمية، وإنما هى تنشطها من حيث هى تزيد عدد القادرين على الاستثمار.
إن رأس المال الفردى فى دوره الجديد يجب أن يعرف أنه خاضع لتوجيه السلطة الشعبية، شأنه فى ذلك شأن رأس المال العام، وإن هذه السلطة هى التى تشرع له، وهى التى توجهه على ضوء احتياجات الشعب.