عقب حرب أكتوبر المجيدة، وبعد الوقفة العربية الأصيلة بجوار الدولة المصرية، منذ نكسة 1967، كانت سنوات مثالية للحمة العربية، وتطبيقاً عملياً فى هدوء لاتفاقية الدفاع العربى المشترك، لكن ما إن انتصرت مصر فى حربها، حتى تراجعت الدول العربية عن استثمار وفوراتها المالية الكبيرة التى نتجت عن قطع البترول العربى عن الدول المساندة للكيان الإسرائيلى، وبلغ سعر برميل النفط مستوى لم يتخيله أحد وقتها.
كل الوفورات المالية العربية ذهبت نحو الاقتصاد الأمريكى والأوروبى، وجرى استثمار أموال العرب فى بلاد المستعمرين السابقين.
وقفت مصر وحدها، بعد انتصار عسكرى باهر، دون أن تترجم هذه الصحوة الوطنية والنخوة المصرية فى صورة إنتاج وعمل وبناء، وفوجئ الجميع بأن خزانة الدولة كانت خاوية، وأن الاستثمارات العربية أعطت ظهرها لقلب الأمة العربية.
فى هذه الفترة تحديداً قررت الدولة الليبرالية الأولى فى العالم، ضرب أكبر بنك عربى يستثمر فى الولايات المتحدة الأمريكية، وقتها لم يتعظ أحد، وظلت الأموال تتدفق على العم سام، ولم تنقطع الاستثمارات العربية نحوها.
عقب ثورة 30 يونيو، كانت هناك خلافات حادة وقوية بين مصر ودول عربية وإقليمية، وكانت هذه الدول بها استثمارات محدودة فى مصر، فى صورة شركات وبنوك وأسهم وودائع، لكن أحداً فى دولة 30 يونيو فكر للحظة فى مصادرة أى من هذه الأموال والاستثمارات، رغم حالة الاحتقان السياسى الشديدة.
فى هذه اللحظة لم يدرك بعض الإخوة العرب فكرة «الأصل الغالب»، فكرة الدولة الموثوق بها، فكرة النظام الشريف، الذى يدير هذه الدولة، ظلت الاستثمارات المحدودة آمنة مستمرة، وظلت الشركات تعمل، وظلت الأسهم تتداول.
فى قلب الأزمة الاقتصادية الجارية حالياً، تكرر الأمر، وظهرت الدول الغربية على حقيقتها، لمجرد الاختلاف مع روسيا، فصادرت أموالها وأغلقت شركاتها وألغت استثماراتها، وطاردت رجال أعمالها، ومارست العنصرية ضد المواطنين الروس، وكل الناطقين بالروسية، وظهر العديد من الأشكال الانتقامية التى تتعارض مع فكرة الليبرالية، والدولة الموثوق بها.
فى تلك اللحظة ارتفعت أسعار الطاقة إلى عنان السماء، وأصبحت لدى الدول العربية البترولية وفورات مالية هائلة، نتيجة هذه الأزمة العالمية.
لكن يبدو أن الإخوة العرب أدركوا درس التاريخ الذى أعاد نفسه، وبدأت أفكار استثمار الوفورات المالية فى مصر تطرح بقوة، خاصة أن الدولة المصرية الحالية تحمل الكثير من الموثوقية، وتضع الأمن القومى العربى فى قلب أمنها القومى.
الاستثمار فى مصر قد لا يكون الأكثر ربحية، لكنه على الأقل الأكثر موثوقية، والدولة المصرية قد لا تكون الدولة المتقدمة، لكنها دولة تحترم نفسها، ويتسع صدرها، تدرك فى صميم وعيها أن الذى يبقى هو العروبة، مهما كانت الخلافات، ومهما كانت التحديات، لم ولن تتنازل مصر عن رؤيتها أن المحيط العربى هو الأهم والأوجب.