تمر مشاعرنا وقلوبنا بمحطات عديدة فتنمو من الطفولة إلى المراهقة ثم الشباب والنضوج إلى الكهولة والشيب والعجز فتختلف وتتشكل وتنتقل من حال إلى آخر فتؤلمنا وتؤرقنا وتسرق النوم والأحلام والرغبات والأمنيات منا وتقتل أجمل العلاقات وتدمرها، كما تسعدنا وتطير بنا إلى السماء لنحلق مع الطيور ونتحدث معها ونهمس لها بأسرارنا، وتدفعنا للعيش وسط بساتين الورود والسحاب والنجوم ونجاور القمر وننتظر ميلاده وضوءه وغناء الصبايا له.
وفى كل تلك المراحل يهاجمنا الحنين فى نوبات أشبه ما تكون بزخات المطر، حيث يبدأ قطرات متناهية الصغر غير مرئية ولا محسوسة لتتزايد بالتدريج وتتحول إلى سيول تأخذ كل شىء فى طريقها بلا تمييز ولا تفريق فتنجرف معها العربات ومحتويات المحال والبشر والحيوانات وكل ما له وجود على الأرض، وهكذا يكون الحنين ويلعب معنا نفس الدور ويختار لنفسه البطولة المطلقة بلا منازع ويكتب حروف اسمه بالضوء الفسفورى والبنط العريض كما لو كان يحفره على أجسادنا وقلوبنا ويخلطه بدمائنا فتتغير فضيلتنا ونتوه، وقد نصبح بلا هوية بعد أن يحتلنا الحنين ويصبح صوته هو الأقوى والأبقى ونوافقه أنه الأولى بالرعاية والاهتمام والأجدر على التملك بلا منازع والجلوس على العرش.
ونعيش معه فى شراكة ممتعة ومقبولة وتدور أيامنا على وقع أقدامه تتحرك حولنا وتتمايل وترقص مع كلمات الشعراء وأغانيهم وآهاتهم وإشاراتهم ورموزه أو صوره المختلفة، إلا أن الحياة برفقة الحنين تتعرض لهجمات وثورات ومحاولات التخلُّص والفرار كما لو كان محتلاً غاشماً قاسى القلب يسيطر ويستولى على الثروات والكنوز والآثار والتاريخ والأرض وكل ما يقع تحت يديه.
ولأن الثورات لها مكونات ومطالب وقدرات لا بد أن تملكها حتى تنجح، فإن ما يحدث يبدو للمراقبين والمحللين وأطباء علم الاجتماع والنفس والمؤرخين وكأنه ثورة بيضاء لم تلجأ إلى سفك الدماء واستولت على ما تريد وقضت تماماً على المدعو (الحنين)، الذى ذكر فى وصفه فى موسوعة ويكيبيديا بأنه خروج الصوت من الفم، وصوت الناقة إذا حنت، وصوت الأم إلى ولدها، وصوت الذى فى فؤاده نزعة ألم، كما أنه صوت الريح والنسيم الرقيق، وصوت آلة العود عند النقر عليه، وصوت المشتاق، كما أنه اسم وادٍ بين مكة والطائف، وعنده حدثت غزوة حنين فى سنة ثمانٍ من الهجرة بعد فتح مكة، وقد انتصر فيها المسلمون.
وفى الحقيقة أنه بعد انتصار الثورة وتوارى المهزوم تسير بنا الحياة وننتقل لمراحل الانشغال التام والبحث عن الأمجاد والنجاح والبناء والتعمير ورسم شجرة العائلة وانتشار فروعها فى جميع القارات وبناء الأبراج والاتجاه إلى الصحراء والقرى السياحية وإيداع الأرقام المليونية والأرصدة الثابتة والمتغيرة وأوراق البورصة والشهرة وإطلاق لقب العائلة على شركات عابرة للقارات ومشروعات سكنية وشوارع وسط المدينة وقنوات فضائية وربما يصل الأمر لأقمار صناعية أو سفن تجارية ضخمة، لنفاجأ ببرودة تهاجم القلوب والأجساد والأيام، وعند العرض على الأطباء تكون الصدمة القاسية أن التشخيص هو (فقدان الحنين)، الذى يؤدى إلى هشاشة نفسية مؤلمة تؤدى إلى اعتزال الحياة وكل ما يؤذى مشاعرنا حتى لو كان تخيلاً غير حقيقى، فمن غير الحنين تصيبنا حالة شعورية عند أى مشكلة تواجهنا تجعلنا نشعر بالعجز والانهيار ونصورها ككارثة وجودية فى عملية تسمى فى علم النفس catastrophizing، ولا يكون لها علاج إلا بالعودة للحب والحياة والأشواق واستدعاء الحنين.