قصة حقيقية بائسة
(١) نظر إلى عينىَّ فى توجس.. فما إن اطمأن أننى لن أنهره فى الغالب فبدأ فى التوجه نحونا.
- حاجة لله يا بيه.. والنبى حاجة علشان أتعشى!
أتحسس جيوبى فى سرعة لأكتشف أننى لا أملك فئات صغيرة من النقود.
- ربنا يسهلك يا بنى.
أجيبه فى روتينية مملة وأنا أشيح بوجهى بعيداً.
إنها ليلة ممتعة.. فقد كان اللقاء على أحد المقاهى العريقة.. صوت أم كلثوم ينبعث من المذياع ليمتزج بالصخب الذى يجتاح كل شىء حولنا.. الكثير من المشروبات الساخنة التى يتم رصها على المناضد الصغيرة فى سرعة.. وصوت النرجيلة الذى يعزف سيمفونيته الخاصة.. لا أريد أن أفسد الليلة بتوسلات المتسولين!
لم ييأس وهو ينصرف عنى ليسأل صديقاً آخر
يسأله صديقى الصحفى اللامع وقد أعجبه إصراره.. لا يبدو أنه سيستسلم بسهولة:
- انت عاوز إيه يا بنى؟
ينظر إليه نظرة بائسة تفوق سنوات عمره التى لم تتجاوز السبع سنوات بكل تأكيد:
- أقولك حاجة يا بيه.. أنا مش عاوز فلوس.. أنا عاوزك تجيب لى أكل من عند «بقدونس»!!
كان اسم المطعم العجيب هو ما شد انتباهى!.. فلا أعتقد أن هناك مطعماً يحمل هذا الاسم العجيب.
أسأله فى استفهام ضاحك:
- مطعم إيه؟
يشير إلى جهة بعينها وهو يؤكد:
- مطعم بقدونس ده يا بيه.. والنبى معلش!
كان الإغراء أقوى من أن أحتمل.. قمت من مقعدى وأنا أجيبه:
- طب تعالى معايا وأنا هجيب لك الأكل.
(٢) يسير أمامى فى سرعة وسعادة.. يبدو أنه قد وجد ضالته أخيراً.. خمسون متراً أو أقل حتى أشار إلى أحد المحلات وهو يهتف:
- آهو مطعم بقدونس.. عاوز الأكل اللى معاه اللعبة!
أنظر إلى اللافتة وأنا أبتسم رغماً عنى لأكتم ضحكة كبيرة.. فالمطعم كان أحد الفروع لأشهر المطاعم الأمريكية للأكلات السريعة.. الذى يحمل اسماً أجنبياً يصعب على هذا الطفل نطقه.. ولهذا فقد قام بتسميته باسم خاص به يحمل نفس الوزن.
أدلف إلى المطعم.. وأطلب من العامل أن يحضر له وجبة الأطفال الشهيرة الخاصة بالمطعم.. فيبادرنى الطفل فى لهفة:
- عاوز العربية دى.. يشير إلى صورة لسيارة على الإعلان المعلق داخل المحل.
إنه يعرف ما يريده جيداً
- هاتله اللعبة عربية.. ولما يطلع الأكل اديهوله.
يبتسم الموظف وهو يقول:
- حاضر.
التفت إلى الطفل وأنا أقول:
- استنى هنا بقى ولما يطلع الأكل خده.. انت اسمك إيه؟
لا يلتفت إلىَّ من الأساس.. فعينه تتعلق بتلك اللعبة البلاستيكية التى يعطيها له ذلك الموظف.. فيلتقطها بلهفة وهو يجيبنى:
- اسمى أحمد.
يلتقط اللعبة بلهفة شديدة وكأنه حاز الدنيا.. ثم ينظر إلىَّ بامتنان شديد.. وينطلق خارجاً من المطعم.
- استنى يا أحمد طيب خد الأكل.
لم أتلق رداً.. فقد ركض خارجاً إلى الشارع.. واختفى فى لمح البصر.
أنظر إلى الموظف فى حيرة.. ثم أوصيه أن يعطيه الطعام إذا عاد ثانية.. وأخرج من المطعم عائداً إلى المقهى بابتسامة حائرة!
(٣) يعانى أطفال الشوارع من البرد والجوع وسوء الاستخدام من قبل عصابات منظمة.. تقوم بتوزيعهم فى الأماكن الأكثر ثراء للتسول لحسابهم.. ولكن أحداً لم يلتفت إلى معاناتهم النفسية من قبل.
لم يكن أحمد جائعاً من الأساس.. لقد كان -كأى طفل- يريد اللعبة التى تبهره صورتها على واجهة المطعم.. ولهذا لم يكترث للطعام.. ولم يهتم أن يطلب نقوداً.. وإنما اختار بذكاء أن يحصل على غايته.. التى لا تزيد على لعبة بلاستيكية صغيرة.
القصة حقيقية تماماً.. والكثير من «أحمد» يفترشون طرقات المدينة العجوز.. فإن وجدتم أحدهم يوماً.. فابحثوا عما يسعده.. فإنه لا يتسول النقود.. وإنما يتسول طفولته.