عندما يخرج المقدسى من منزله باتجاه مكان عمله أو مدرسته فى تمام الساعة السابعة صباحاً، فإنه سيتأخر غالباً ولن يصل إلى وجهته فى الوقت المناسب بسبب الأزمة المرورية الخانقة فى شوارع المدينة الرئيسية وأحيائها.
لكن الأمر بدا مختلفاً فى صباح الاثنين الماضى، إذ اختفت حركة طلبة المدارس بشكل شبه كامل، كما خفتت حركة حافلات النقل بسبب الإضراب الشامل، الذى دعت له المؤسسات الوطنية الفلسطينية والدينية فى القدس، رفضاً لمحاولات الاحتلال الإسرائيلى فرض مناهج يصفها المقدسيون بأنها محرّفة فى مدارسهم.
لقد دأبت إسرائيل اللقيطة ذات التاريخ المزيف على نسب التراث والتاريخ والحضارة لنفسها، كى تنفى عنها صفة المحتل، وأنها صاحبة الحق فى الأرض حتى إنها سرقت الفولكلور الفلسطينى ونسبت إليها الأكلات الفلسطينية الشعبية الشهيرة، وسوقتها للعالم على أنها من التراث اليهودى.
وعليه لم يكن مستغرباً، استهداف الاحتلال الإسرائيلى التعليم فى مدينة القدس منذ احتلالها عام 1967 وحتى اليوم عبر إجراءات متواصلة أدت إلى حرمان الكثير من المقدسيين من التعليم.
وكان الاستهداف فى نواح مختلفة، منها العمل على تغيير المناهج التعليمية، والحد من بناء المدارس، ما أدى إلى نقص حاد فى الغرف الدراسية، وترتب على ذلك حرمان أعداد كبيرة من المقدسيين من التعليم، وحين انتفض أهالى القدس الشرقية المحتلة وقرروا الإضراب الشامل رفضاً للمناهج الإسرائيلية فى المدارس قبل أيام قليلة، فقد كان ترسيخاً لموقفهم الثابت الذى اتخده المقدسيون منذ عقود، عندما حاولت إسرائيل فرض مناهجها التعليمية على الفلسطينيين بعد احتلال عام 1967، للتأكيد بأن من حق الفلسطينيين اختيار مناهجهم التى تدرس لأبنائهم، خاصة بعد القرار الذى أصدرته وزارة المعارف الإسرائيلية فى نهاية شهر يوليو الماضى، الذى يقضى بسحب الترخيص الدائم من 6 مدارس فى القدس الشرقية، لمدة عام بتهمة «التحريض فى الكتب المدرسية».
مارست إسرائيل احتلالها للعقول الفلسطينية، كما احتلت أراضيهم، حينما فرضت مناهجها التعليمية على المناطق العربية المحتلة عام 48 ومدينة القدس الواقعة تحت سيطرتها منذ عام 1967، وكما حاولت إسرائيل أسرلة العقول ومحو الهوية الفلسطينة، عملت بشكل مكثف على فرض مناهجها التعليمية على الفلسطينيين كنوع من استكمال مخططاتها لإلغاء كل ما هو فلسطينى، وقد فرضت إسرائيل منهجها الدراسى إجبارياً على جميع المدارس فى القدس من الكتب التعليمية التى تسوق للرواية الإسرائيلية الصهيونية، عن أرض إسرائيل وتاريخ اليهود فيها، وأن العرب الذين يسكنون فى إسرائيل أقلية تحتضنهم إسرائيل بديمقراطيتها وتنوعها السكانى فهى قدوة ومثل يحتذى! ورغم ذلك لم يدم التعليم بالمنهج الإسرائيلى سوى عامين فى الأراضى التى احتلت عام 1967 ومنها القدس، ثم سمح الاحتلال الإسرائيلى بتعليم المنهج الأردنى إثر احتجاجات وإضرابات قام بها مديرو مدارس القدس بسبب فرض المناهج الإسرائيلية على الطلاب الفلسطينيين دون وجه حق، كونها تساهم فى محو الهوية الفلسطينية من عقول الطلاب، ومع الوقت تجعلهم ينشأون على أن إسرائيل هى دولتهم الوحيدة وأن انتماءهم يجب أن يكون لها.
فبعد كفاح خرج المنهج الفلسطينى إلى النور عام 2000، وبدأت المدارس المقدسية فى تعليمه حتى المدارس التابعة لبلدية الاحتلال، لكن فى عام 2011 عادت إسرائيل للتحكم بمناهج التعليم المدرسية، وبدأت فى تحريف المنهج الفلسطينى وممارسة الضغط على المدارس لتعليمه، بالتزامن مع محاولة فرض المنهج الإسرائيلى فى مدارس القدس، ورغم الضغط استطاع اتحاد أولياء أمور الطلاب فى القدس، بعد البحث فى المنهج المحرف، اكتشاف حذف جميع الموضوعات التى تدل على فلسطينيتهم والنصوص التى تتناول المقاومة والاستشهاد والدفاع عن الوطن وحق العودة، فقد ركز الاحتلال الإسرائيلى فى تحريفه للمنهج الفلسطينى على كتابى اللغة العربية والإسلامية، وطبعاً تم حذف كل ما يشير إلى الهوية الفلسطينية كالعلمْ، والنصوص والموضوعات التى تشير إلى تاريخ وكيان فلسطين، فضلاً عن حذف تعريف بلاد الشام كونه يحتوى على فلسطين، وكل ما يتعلق بحب الوطن والمقاومة ضد المحتل وأحكام الشريعة المتعلقة بقتال المفسدين وحقوق الأسرى.
رغم أن مناهج التعليم الفلسطينى، بعد اتفاقية السلام الموقعة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلى، صُممت لتخدم ما سمى «ثقافة السلام»، فإن السلطات الإسرائيلية تعمل على تشويهها، واغتيال الروح الوطنية فيها، وتقديم منهج يخلو من أى إشارات تدل على الهوية الفلسطينية أو الانتماء للوطن.
وقدم الاحتلال مناهج التعليم للمقدسيين من خلال طباعة مناهج السلطة الفلسطينية من جديد، وقام بحذف كل ما له علاقة بالانتماء الوطنى.
لكن إصرار المقدسيين على المواجهة والتصدى لمؤامرات الاحتلال لتغيير التاريخ وتزويره، ومحو الهوية الفلسطينية من المناهج التعليمية لأبنائهم ويقظتهم لذلك، يظل حائط الصد المنيع لتمرير مخططات إسرائيل الخبيثة مهما فعلت.