تتزايد الضغوط السياسية والأمنية والاجتماعية الواقعة على عدد من بلدان منطقة الشرق الأوسط، بموازاة الأزمة الاقتصادية العالمية، التى خلّفتها جائحة «كورونا»، وعززتها الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
بسبب تلك الضغوط يمكن أن تتفاقم المخاطر فى الدول التى لم تصمد أمام طوفان الانتفاضات مطلع العقد الماضى، لتغرق أكثر فى التفتت والفوضى، بينما تقع دول جديدة فى دائرة الخطر، مع تزايد معدلات التضخم والفقر، واحتمالات تصاعد الاحتقان وصولاً إلى تفجر الأوضاع.
وفى لبنان، تتوالى الأخبار عن هجمات بعض المودعين على المصارف للحصول على أموالهم باستخدام القوة وتحت تهديد السلاح، فى ظل أزمة اقتصادية طاغية انهارت بسببها العملة الوطنية، ما دفع الأسعار إلى بلوغ مستويات غير مسبوقة.
وفى هذا الصدد، سيمكننا أن نتذكر كلام مدير الاستخبارات الفرنسية السابق، برنار باجوليه، قبل سبع سنوات، حين قال إن «الشرق الأوسط الذى نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وإن دولاً مثل العراق وسوريا لن تستعيد أبداً حدودها السابقة».
كان «باجوليه» يتحدث فى مؤتمر بشأن الاستخبارات، فى جامعة جورج واشنطن الأمريكية، بحضور عدد من رجال الأمن وكبار الاستراتيجيين، حيث لم يعارضه أحد، بل على العكس تماماً، فقد أقر نظيره الأمريكى، مدير الـ«سى آى إيه» آنذاك جون بيرنان، ما ذهب إليه.
يبدو بالفعل أن تغيرات فارقة وقعت فى المنطقة العربية، وأن دولاً وطنية وأمماً كبيرة تتفتت، وقد يتسع هذا الخرق فيشمل دولاً أخرى تبدو متماسكة وبعيدة عن المخاطر حتى هذه اللحظة.
إن الدول التى تتعرض لخطر التفتت وفقدان السيادة الإقليمية كانت تحت أنظمة ديكتاتورية حكمتها بالقمع والفساد، لكن إصلاح تلك الدول شىء، وانهيارها وتحولها إلى ساحة للحرب الأهلية شىء آخر.
لا يمكن أن نفهم تلك الحالة التى باتت فيها منطقة الشرق الأوسط من دون الرجوع إلى ما أعلنته كونداليزا رايس، وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة، فى العام 2005، عن تبنى مفهوم «الفوضى الخلاقة».
ووفق ما أعلنته «رايس»، آنذاك، فإن الإدارة الأمريكية مدعوة إلى تبنى استراتيجية إحداث الفوضى فى المناطق التى تعيش تحت الحكم الاستبدادى، وصولاً إلى ترتيب أوضاع تلك البلدان وتحقيق «الانتقال الديمقراطى» فيها، وهو الأمر الذى أضحينا نعلم أنه لم يحدث حتى وقتنا هذا.يجب ألا نتجاهل أن شيئاً من «الفوضى الخلاقة» قد حدث فى كل من العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ومصر، وتونس، وأن الفارق بين مسارات تلك الدول يتعلق فقط بحجم الفوضى التى ضربت كل دولة، وقدرة شعبها ومؤسساتها على مواجهة ذلك التدبير.
لا يمكن لمصر أن تشعر بأنها بمأمن من الانزلاق إلى سيناريو «الفوضى الخلاقة» من دون سياسات ناجعة للإصلاح الذى يحقق العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والنمو الاقتصادى والتماسك السياسى.
ولن يمكن لخطط التفتيت و«الفوضى الخلاقة» أن تنجح إلا من خلال استغلال الشباب الذى يمثل النسبة الأكبر من السكان والقوى الحيوية فى بلد مثل مصر، ومن دون سياسات تستهدف تعزيز وعى الشباب المصرى، وإدماجه فى الحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية، ستتراجع قدرته على حماية مستقبله ومستقبل المجتمع والدولة.
إن مصطلح «الأمن الديمقراطى» مصطلح جديد على معاهد البحث ومستودعات الأفكار الاستراتيجية؛ ومع ذلك فإن ملامحه يمكن أن تُجمل فى حزمة من السياسات التى يجب أن تتخذها الدولة فى إطار محاولتها للتصدى.
وبتحليل تلك السياسات وجد الباحثون المختصون أنها تركزت فى ثلاثة عناصر رئيسة؛ أولها المواجهة الحاذقة الحاسمة للاستهدافات العسكرية والأمنية ضمن «الحرب التقليدية» أو «غير التقليدية»، بحيث لا تكون هناك فرصة لأى اختراق مؤثر للحالة الأمنية، أو إشاعة الفوضى، أو زعزعة هيبة الدولة، مهما كانت التكلفة ومهما كانت التداعيات.
وثانيها يتعلق بدرجة الرشد والنجاعة فى الإدارة الاقتصادية للموارد المتاحة، بالشكل الذى يحقق إنجازاً اقتصادياً ملموساً، يتم توزيع أثره بقدر من العدالة مناسب، بحيث يعالج الأبعاد الاجتماعية، ويبطل دعاوى المظلومية، بما يجرد هذا الاستهداف من القدرة على الاستثمار فى ذرائع الاحتجاج والتمرد.
أما ثالث هذه العناصر، فليس سوى جملة من السياسات التى تنتهجها الحكومة لإيجاد بيئة ضامنة لقدر مناسب من الحريات وحقوق الإنسان، بشكل يُبقى المجال العام طبيعياً، ويترك الفرصة للجماعات والقوى السياسية والاجتماعية للتعبير عن مواقفها ومصالحها، ويخلق حالة مجتمعية تضمن حواراً وطنياً بنّاءً، ضمن إطار القانون، وتحت سقف الدستور.
وفى إطار تلك المواجهة تبرز أهمية الاهتمام بالتنشئة السياسية والثقافية للشباب المصرى، الذى يجب أن يجد الفرص السانحة للانخراط فى الحياة الثقافية والفنية والفكرية من جانب، وممارسة دوره السياسى من جانب آخر، عبر المشاركة فى الجمعيات والأحزاب، والانخراط فى النقاش السياسى العمومى الدائر عبر منصات الإعلام بشقيها التقليدى والجديد.
وسيكون من المهم فى هذا الصدد تعزيز المجال الإعلامى الوطنى التقليدى، ومنحه ما يستحقه من حرية وتعدد وتنوع، لأن كل تراجع فى هذا المجال يشكل فرصة للأخبار المغلوطة ويعزز الميل إلى التضليل.
علينا أن نطور قدرات شبابنا ونساعده فى بناء وعيه ووجدانه عبر أنماط الإنتاج الفنى والدرامى والفكرى من جانب، ومن خلال تطوير مشاركته وإدماجه فى العمل الوطنى بشقيه السياسى والاجتماعى من جانب آخر، وعبر تلك المشاركة وذلك الاهتمام يمكن أن نحصّن شبابنا وأن نبنى قدراته لمواجهة عالم يموج بالمخاطر.