عصر التحولات الكبرى الذى نعيشه لا يموج بتقلبات سياسية عاتية وهزات اقتصادية هادرة فقط.
لكن التحولات طالت، وربما انعكست، وفى أقوال ثالثة تفجرت فى جانب منها مدفوعة بالصحافة والإعلام.
يبدو الكلام غريباً بعض الشىء فى زمن يقولون فيه إن الناس لا تقرأ، وإن من يقرأ يطالع ما كتبه خبير فيسبوكى عتيد أو متخصص تويترى رعديد.
ويقولون فى زمننا هذا إن الصحافة بمعناها الذى تعرفه الأجيال الأكبر سناً -فلنقل 45 وما فوق- حيث الخبر ذى العناصر المكتملة من «من وماذا ومتى وأين ولماذا» والمصداقية بقدر الإمكان قد ولت وأدبرت ولم يعد لها مجال.
المجال الصحفى الذى نتحدث عنه لم يعد يقتصر على الصحف المطبوعة، أى الورقية التى يشتريها المواطن بكامل إرادته من كشك الصحف الذى انقرض، وما بقى على قيد الحياة منه تحول إلى بيع السجائر والحلوى وربما بعض الكتب الدينية والروايات.
امتد حديث انتهاء عصر الصحافة إلى المواقع الإلكترونية التى كانت تسمى نفسها حتى وقت قريب مضى «الصحافة الجديدة».
وامتد كذلك -وإن كان بدرجة أخف- إلى شاشات التليفزيون التى كانت طاووساً يزهو بريشه، حيث المشاهدات والمتابعات والقدرات الفائقة على تشكيل وتوجيه الرأى العام.
الرأى العام يخبرنا أن الغالبية العظمى من المعلومات والأخبار التى تشكل توجهاته صار منبعها منصات الـ «سوشيال ميديا»، و«كل واحد وحظه»، أى لو كان حظك أن قائمة أصدقائك فيها قدر أدنى من تداول الأخبار الحقيقية لا المفبركة أو الكاذبة أو المسيسة، بالإضافة إلى تقلص هامش الهبد، فأنت تحصل على جرعة خبرية معقولة إلى حد ما، والعكس صحيح.
لكن فى النهاية، لا يصح إلا الصحيح. وفى «منتدى دبى للإعلام العربى» الذى انعقدت دورته الـ20 تحت رعاية نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء حاكم دبى الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وإدارة رئيسة نادى دبى للصحافة السيدة منى غانم المرى، عكست غالبية الجلسات شعوراً عاماً مصحوباً بأدلة وبراهين وحجج بأن الصحافة الأصلية باقية حتى وإن كانت تعانى مشكلات وانصرافاً من قبل البعض، أو بالأحرى البعض الكثير.
أزمة الوباء التى فرضت نفسها على الكوكب عامين كاملين وما زال الجميع يتجرع آثارها، ثم حرب روسيا فى أوكرانيا التى ما إن بدأ جسد المريض المنهك يستعيد عافيته حتى ضربته على رأسه مجدداً، وما نجم عن ذلك من أزمات اقتصادية طاحنة طالت الكبير قبل الصغير، ناهيك عن تكشير أزمة المناخ عن أنيابها بعد عقود من الأنين المكتوم، كل ما سبق لم يجد إلا فى الصحافة الأصلية الحقيقية ما يسرد معلوماته ويفند حقائقه.
قد يقف أحدهم «يتنطط» فى مقطع «تيك توك» وهو يتحدث عن كوفيد-19، وقد يهرى آخر هرية فى تغريدة عن الركود أو التضخم أو الفقر أو سلاسل التوريد، وقد يطلق ثالث العنان لإفتاءات فيسبوكية ما أنزل الله بها من سلطان حول مآل حرب روسيا فى أوكرانيا، لكن الباحثين عن الحقائق يلجأون إلى الصحافة، حتى وإن كانت أعدادهم قليلة.
هذا ما تأكد فى «منتدى دبى للإعلام» عبر عشرات الجلسات والأنشطة والورش التى لم تحمل عنوان «عودة المكانة إلى الصحافة» بقدر ما عكس المحتوى والنقاش ذلك.هى عودة حميدة إذن، لكن «حميدة» عليها أن تستثمر الفرصة الذهبية لتصحح من نفسها وتحسن من أدائها وتسارع لتؤكد للجميع أنها تستحق مكانة الصدارة كمصدر المعلومة والتحليل الصادق ولو بقدر معقول.
المعقول هو أن تبتهج العائلة الإعلامية والصحفية بعودة المكانة. ومع البهجة تأتى إعادة التذكرة بقواعد العمل الصحفى الأصلية والأصيلة والمهنية التى لا تنهزم أمام تريند سخيف أو تنافس على هاشتاج سمج.
ولأننا نعيش فى عالم حقيقى يتطلب راتباً آخر الشهر، ما يعنى أن المؤسسة الصحفية أو الإعلامية يجب أن تؤمن مصدراً للربح لم يعد متاحاً ببيع النسخ الورقية وعلى الأرجح لن يوفره تحويل الموقع الخبرى إلى موقع يقتصر على المشتركين.
هذه طبيعة مجتمعاتنا. على الأرجح لن يدفع، أو بالأحرى لن يتمكن، المواطن من دفع ولو عشرة جنيهات ليطلع على الأخبار على أحد المواقع المهنية.
وهذا بدوره يعنى أن على المؤسسات الإعلامية أن تخترق بكل ثقة عالم الذكاء الصناعى وتدخل بعد دراسة وعلم عصر الذكاء الصناعى والثورة الرقمية لا بالتريند المثير، ولكن بالأدوات الحديثة والمحتوى المهنى القادر على جذب القارئ لا طرده أو الاستخفاف بعقله.
وكم كانت سعادتى وأنا أطالع خبر دخول «الوطن» عصر الميتافيرس عبر أول ستوديو لصحيفة مصرية.
هى مجرد البداية، لكنها خطوة كبيرة وعملاقة نتوقع منها أن نعود إلى مربع الصحافة الحقيقية ولكن بأدوات لا تواكب العصر بل تستبقه وتستشرفه.