• الصلح هو أعظم آلية شرعها الإسلام لإنهاء النزاعات بدءاً من مستوى الأفراد والأسرة ونهاية بمستوى الدول والحكومات، مروراً بالقبائل والعشائر، سواءً كان الصلح بين المسلمين وغيرهم أو بين المسلمين بعضهم بعضاً.
• ولولا هذه الآلية العظيمة لاستمر أى صراع أو نزاع محلى أو إقليمى أو دولى بلا نهاية وتحول الصراع والنزاع من وسيلة إلى غاية، ومن سياسى إلى مسلح، ولاستمر حتى يفنى أحد الطرفين الآخر أو يضعفهما معاً أو تتوسع حلقات الصراع لتضم أطرافاً أخرى لتراق بحور من الدماء وتزهق آلاف الأنفس وتملأ الكراهية ورغبات الانتقام أجواء الدنيا.
• وأعظم ما جاء فى الترغيب فى الصلح قوله تعالى «والصلح خير» وهى آية جامعة مانعة دقيقة مختصرة، ويمكن للبعض أن يفهمها أنه خير للطرفين، خير فى الدنيا، خير فى الآخرة، خير للأجيال القادمة، خير للجيوش المتحاربة، خير للنفوس التى كدها الصراع والنزاع.
• كلمة «خير» التى جاءت فى سياق النكرة تفيد العموم تجعلها تحتمل كل توقعات الخير، فالصلح فى كل حالاته سيحمل الخير، لأنه يحقن الدماء، ويصون الأرواح، ويوقف هدر الأموال، وكدر النفوس وسلسلة الكراهية.
• خيار الصلح لم يغب يوماً عن عقل الرسول الكريم كقائد لأمته، فقد صالح قريشاً صلح الحديبية، رغم عنادهم وشراسة محاربتهم له، وصالح قبائل اليهود الثلاث وجعلهم جزءاً من مواطنى الدولة، وأعطاهم كل الحقوق والحريات حتى غدروا بالنبى عدة مرات فحاربهم وأجلاهم عن المدينة.
• وهمَّ أن يصالح غطفان، وهى إحدى القبائل الكبرى التى كانت مع المشركين فى معركة الأحزاب، على أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة حتى ينصرفوا عن جيش الأحزاب فكاً لروابط الأعداء وتخفيفاً للضغط العسكرى لحصار المدينة ولكن الصحابة رفضوا ذلك فعدل عن رأيه نزولاً على رأيهم، وهذا لاهتمامه بالشورى ونزوله عليها فيما سوى الوحى.
• لقد كان رسول الله يكره الحرب رغم شجاعته وتأييد السماء له، ففى صلح الحديبية رفض مفاوض قريش «سهيل بن عمرو» أن يكتب فى وثيقة الصلح كلمة «الرحمن الرحيم»، فقبل ذلك النبى بسماحته وسعة عقله رغم اعتراض الصحابة، وتكرر الموقف حينما رفض «سهيل» فى تعنت أن يكتب كلمة «رسول الله»، فرفض على بن أبى طالب أن يمحوها، فمحاها النبى بنفسه تيسيراً للصلح ودفعاً بمسيرته للأمام، واشترطت قريش يومها شروطاً مجحفة ألا يعتمر المسلمون هذا العام ويعتمرون العام المقبل، فقبل الرسول ذلك، واشترطوا ما هو أشد إجحافاً وظلماً وهو أن من قدم من مكة إلى الرسول مسلماً يرده إلى المشركين، أما إذا جاء مسلم إلى قريش فلا ترده إلى الرسول، فقبل أيضاً النبى الكريم ذلك، ومع كل شرط كان الصحابة يغضبون ويتألمون، والرسول يقبل تلك الشروط المجحفة ويهدئ روعهم ويطمئنهم: «إنى عبدالله ولن يُضيّعنى»، ورغم كل ذلك الضيم والهضم لحقوق المسلمين سمى القرآن صلح الحديبية «فَتْحاً مُبِيناً»: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» وليس فتح مكة كما يظنه البعض.
• كان الصحابة يقولون للرسول بعد إبرامه صلح الحديبية، ومنهم عمر بن الخطاب: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ فيقول: بلى، فيقول: لمَ نعطى الدنية فى ديننا؟ فكان يرد عليهم: «إنى عبدالله ولن يضيعنى»، وكان أبوبكر يوافقه على ذلك، ولم تسترح نفوسهم حتى نزل قوله تعالى «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»، فقالوا للنبى: «أفتح هو؟»، فأجابهم: نعم.
• وقد كان لصلح الحديبية أعظم الآثار الإيجابية على الإسلام ودعوته ودولته الوحيدة، واعتنق الإسلام فى غصون عامين ما يفوق أعداد معتنقيه منذ بداية دعوته، وفرغ المسلمون لمواجهة يهود خيبر الذين كانوا يهددون المدينة من جهتهم.
• وقد خلصت من تجارب حياتى أن كل صلح يحدث فى الأرض فى أى مجال وعلى أى مستوى لا بد أن يكون فيه طرف قد هضم بعض حقه ولولا ذلك لم يتم صلح على وجه الأرض، فلا بد فى الصلح من التنازل ليس فى الدين ولكن فى بعض الحقوق.
• وهذه حقيقة راعاها الإسلام لأنه دين واقعى، يتفاعل مع الحياة بمعطياتها ومع الواقع بحقائقه الموجودة على الأرض، لا يتعامل مع خيالات أو أمنيات النفوس.
• المهم ألا يحل الصلح حراماً ولا يحرم حلالاً.
• فالصلح خير ما دامت فيه مصلحة للأسرة أو الأوطان أو الإسلام، فقد جاء الإسلام لتحقيق المصالح ودرء المفاسد، وعند التعارض تحقيق أعلى المصلحتين بتفويت أدناهما ودرء أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما.
• ومن أعظم أئمة الصلح الذين تأثرت بهم حفيد النبى «الحسن بن على» الذى حقن دماء المسلمين وتنازل عن السلطة لمعاوية بن أبى سفيان، فلما عاتبه بعض أتباعه فى ذلك، قال: «لقد كانت جماجم العرب بيدى فكرهت أن أقتلكم على الملك».
• وكان بعض الشيعة يتطاولون عليه: «يا عار المؤمنين»، «يا مذل المؤمنين»، فكان يقول: «العار خير من النار».
• لقد أنقذ الحسن بن على الأمة الإسلامية وقتها من اقتتال بغيض لا نهاية له، سيهلك الحرث والنسل، وقد تنبأ النبى الكريم بعبقرية حفيده الحسن فى الصلح والسلام فقال عنه: «إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين».
• أحبتى الكرام الصلح والسلام يحتاج إلى رجال شجعان، أقوياء النفوس، ذوى همم عالية، وعزمات ماضية، وعقول بصيرة واعية، وأفهام ناضجة راقية يتحملون لوم اللائمين ومزايدة المزايدين، يحتاج إلى رجال مخلصين يقولون كما قال الحسن بن على، رضى الله تعالى عنهما: «العار خير من النار»، يحتاج إلى رجال شرفاء يتحملون مسئوليته ولا يخافون فى الله لومة لائم، ولا ينتظرون إلى مصلحة شخصية ضيقة.
• السلام والصلح يحتاج إلى شجاعة أعظم من الشجاعة التى يحتاج إليها إعلان القتال، ويحتاج إلى توكل أعظم من التوكل الذى تحتاجه الحرب، ولذلك فإن الله عز وجل حين أمر نبيه، صلى الله عليه وسلم، بقبول الصلح أمره معه بالتوكل عليه، وطمأنه بأنه هو سبحانه يكفيه، وأنه هو ناصره، يقول تعالى: «وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله».