فى تلك الأيام الجميلة التى تعلمنا فيها الاستمتاع بكل شىء حولنا أثناء سيرنا فى الطريق اعتدنا أن نرى ذلك الحامل المعدنى الأنيق يحمل الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية والدوريات والكتب والألغاز ومجلات الصغار الملونة وكنا نعقد صداقات وصفقات مع أصحاب ذلك الحامل الذى كان بمثابة أرشيف يومى وبحثى ونقدى وفنى واقتصادى وعلمى وإلى جواره صفحات الموضة العالمية وألوانها وكيف تتعلم المرأة فن الطهى والخياطة ولا مانع من كتب تفسير الأحلام والتنبؤات وكيف تكتب خطاباً للمحبوب وأبيات شعر لشاب مغمور لا يعرفه أحد إلى جوار دواوين أخرى لأشهر من عرفناهم من مبدعين وشعراء على كلماتهم أحببنا وحلمنا وتنزهنا وتمنينا لو توقف الزمن ونحن نتأمل ملامح الحبيب فى سعادة وبراءة، كنا نعقد الصفقات لنحصل على كل ما يوضع على الحامل المعدنى حتى لو كنا لا نملك الثمن كاملاً، ولا عجب فى ذلك فقد كنا وجوهاً مألوفة لأصحابه وزبائن دائمين.
فى تلك الأيام الجميلة تنافسنا على التجول بين أرفف حامل الكلمات والأيام والانتهاء مما يضعه صاحبه فوقه بزهو وفخر أن لديه خلاصة العقول والقلوب والعلوم والفنون.
ويبدو أننا فقدنا ذلك الحامل بعد أن دارت بنا الأيام وتغيرت الأحلام والوسائل واللغات والحروف والرموز وأصبحنا نكتب الفرانكوآراب ونقرأ المواقع الإلكترونية ونراسل الأحبة على الهواء مباشرة دون خجل أو خوف، وبعد أن عرضت أهم المكتبات التى سبق ووضع أمامها ذلك الحامل للبيع لتتحول إلى مكاتب للاتصالات ومحال للأزياء مجهولة الجنس ومطاعم شامية وأمريكية تبيع الوجبات السريعة القاتلة فاقدة الهوية لزجة المضمون جاذبة الصغار والشباب وأخرى تحت اسم بيوت التجميل فأصبحت الشوارع التى كنا نرتادها بحثاً عن الكلمات ومعانيها والمكتبات وما تحتويه من كنوز ورائحتها المعروفة لعشاق الأوراق إلى مزيج غير متجانس وخليط من جنسيات وروائح ومشاهد فاقدة للمعانى والتاريخ والهوية.
ووسط هذه المشاهد الهزلية نبحث عن تاريخ ونشأة المكتبات لنجد أنه هو تاريخ الكتابة فى العالم الذى بدأ حينما حفظت الكلمة المكتوبة على العظام والطين والمعادن والشمع والخشب والبردى والحرير والجلد، فكانت هناك مكتبات الطين فى بلاد الرافدين القديمة حيث استمرت عادة تكوين المكتبات على ألواح الطين طوال الدولتين البابلية والآشورية فى القرنين السابع والثامن قبل الميلاد.
حيث اكتشفت الألواح الصلصالية ومكتبات البردى فى مصر وفى منتصف القرن العشرين عثر على مئات من المخطوطات بكهف قريب من البحر الميت كتبت على جلود الحيوانات فسميت صحائف البحر الميت وتحتوى على أقدم كتابة للإنجيل.
ويبدو أننا ورثنا عن أجدادنا الفراعنة عشق الأوراق والكتابة والمكتبات حيث أنشأ الملك خوفو مكتبة باسم (بيت الكتابات) عام ٢٥٠٠ قبل الميلاد، كما بنى الملك رمسيس الثانى مكتبة فى قصره ضمت أكثر من عشرين ألفاً من ملفات البردى، بالإضافة لعدد كبير من المكتبات سميت (المكتبة المقدسة).
وفى بلاد الرافدين عرف الملك آشور بانيبال بـ«الملك المثقف» حيث أسس أول مكتبة فى العالم القديم ضمت الملاحم العراقية الأولى وعشرات الكتب عن المعاهدات التى عقدت بين بلاد آشور وبلاد بابل وظل حب وعشق الأوراق والكتب ينتقل من عصر لآخر ويتحدث عنه الجميع ليقول عنه عباس العقاد «الكتب كالناس منهم السيد الوقور ومنهم السيد الطريف ومنهم الجميل الرائع والساذج الصادق والخائن الجاهل والوضيع والخليع والدنيا تتسع لكل هؤلاء ولن تكون المكتبة كاملة إلا إذا كانت مثلاً كاملاً للدنيا».
فهيا نعود إلى ذلك العالم الساحر البديع ونعيد لأيامنا الباقية حامل الكلمات والأيام.