انتشر أعضاء نادي المتوسطين في كل اتجاه في مصر، بدءاً من حقبة الستينات، قلة من أعضاء هذا النادي تمكنت من الصعود بأدائها إلى نادي المتميزين، لكنها لم تحظ بالفرصة أو تجد المساحة التي تظهر فيها تميزها، إذ كان الطلب على «التميز» آخذ في الانحسار.
على سبيل المثال فنانون كثيرون ظهروا بعد ثورة يوليو كان أغلبهم متوسطون (في التمثيل أو الغناء أو الموسيقى أو الشعر) وكانت المسطرة التي يتحدد عليها مستواهم هي مسطرة التميز التي بقيت قائمة في هذا المجال من خلال جيل المتميزين الموروث عن العصر الملكي.
ليس معنى ذلك خلو جعبة حقبتي الخمسينات والستينات من «المتميزين»، فعبد الحليم حافظ هو ابن الثورة، وكذلك بليغ حمدي ومحمد الموجي وكمال الطويل وغيرهم، وهناك كتاب الرواية والشعر من جيل الستينات، «المتميزون» ظلوا موجودين، لكن وجودهم بات مشروطاً.
شرط الوجود تمثل في «خدمة السلطة» والعمل في معيتها والتعبير عن توجهاتها، لم يكن هناك مساحة متاحة للأخذ والرد، كما كان حال المتميزين أيام العصر الملكي، ولم يكن أمام أي متميز له رأي سوى الانزواء، أو محاربة طواحين الهواء.
فاق الطلب على الولاء الطلب على التميز والكفاءة، لذلك بدأ منحنى الأداء في الهبوط شيئاً فشيئاً في مجالات عديدة، مع ظهور فلتات فردية من حين إلى آخر، كانت تنال حظها من النجاح في الخارج، خصوصاً مع ظهور ثم انتعاش اتجاه بعض الشباب نحو الهجرة إلى الخارج بعد نكسة يونيو 1967.
ثنائية أهل الثقة وأهل الكفاءة كانت الأكثر شيوعاً في الستينات، وقد أثير جدل كبير حولها بعد نكسة 1967، وارتفعت الأصوات متحدثة عن النتائج الكارثية التي ترتبت على الاعتماد على أهل الثقة من متوسطي الكفاءة أو محدوديها، لكن المسألة توقفت عند عتبة «الكلام» حول الموضوع، دون أن يتغير شيء على أرض الواقع.
ليس ذلك وفقط فإلى جوار هذه الثنائية بدأت أدوار العلاقات العامة في الظهور، فأصبح الصعود داخل اي مجال يرتبط بحجم ونوع علاقات الشخص.
كذلك كانت الحال في السياسة والاقتصاد والفن والرياضة وشتى المجالات الأخرى.. فليس المهم حجم الموهبة أو المهارات المتوافرة لدى الفرد أو ما يتمتع به من تميز، فكل هذه العوامل باتت قليلة القيمة أمام العلاقات النافذة والقادرة على التأثير في مراكز صناعة القرار.
العلاقات العامة مثّلت أداة مهمة من الأدوات التي اعتمد عليها أعضاء نادي المتوسطين في الصعود خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وتمكن المسيطرون المتوسطون على أي من مجالات العمل أو النشاط من استبعاد أي حالة تميز تظهر هنا أو هناك، وبذا أصبح الأداء المتوسط هو القاعدة، وعاش المجتمع المصري خلال فترة الستينات حالة أقرب إلى الثبات، وباتت الحياة فيه لا تقدم ولا تؤخر، وهي لا تقدم لأن أعضاء نادي «متوسطي الأداء» هم السائدون، ولا تؤخر لأن البقية المتبقية من أعضاء نادي المتميزين التي ظهرت في الماضي ما زالت في الصورة.
ولعلك تتفق معي في أن من لا يتقدم يتأخر، لأن معادلة «محلك سر» لا تصلح لواقع سريع التغير، وكلنا يعلم إيقاع التغيير السريع الذي ميّز النصف الثاني من القرن العشرين، حين كانت المجتمعات التي تعتمد على المتميزين تتقدم، والمجتمعات التي يسودها المتوسطون تسير داخل الحذاء.