لا أدرى لماذا أتذكر مؤخراً تلك القاعدة الفيزيائية الشهيرة «لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه».. فعلى الرغم من أننى كنت وما زلت أكره الفيزياء فإن تلك القاعدة قد تكون الأقرب لتفسير ما نراه فى هذه الأيام من دعوات مشبوهة لهدم الثوابت الدينية، وأخص بالذكر تحديداً أحد البرامج على إحدى القنوات الفضائية التى تنتمى إلى شركة إعلانات شهيرة، والتى يبدو أن الأمر قد أصبح يستلزم وقفة واضحة وصريحة معه، لوقف هذا العبث الذى يزداد يوماً بعد يوم.
لقد ساقنى القدر لأشاهد إحدى حلقات هذا البرنامج العجيب الذى يحمل اسم مقدمه «مع إسلام».. الاسم يحمل تورية لغوية جميلة، ولكن يبدو أن الاسم نفسه يلعب دوراً مهماً فى عملية «التدليس» التى يقوم بها مقدم البرنامج دون كلل!
فى البداية ينبغى أن نقر بالحقيقة المؤسفة، أنه كلما زاد التطرف الدينى فى مجتمع زادت معه نسب الإلحاد، ولمن لا يعرف فإن أعلى نسب الإلحاد التى تم تسجيلها تاريخياً فى العصر الحديث كانت فى إيران إبان حكم الخمينى، ولأننا عشنا أعواماً سوداء فى ظل حكم فاشى إخوانى فاسد، كان المواطن البسيط خلالها فريسة سهلة لدعاة التطرف الدينى فى الفضائيات، لذا كان منطقياً أن تزداد الدعوات المتطرفة فى الاتجاه الآخر، التى كان ضرورياً أن تتخذ الدولة ومؤسساتها الدينية المتمثلة فى الأزهر الشريف موقفاً واضحاً وحاسماً تجاهها، ولكنها لم تفعل!
الخطير فى الأمر أن البرنامج لا يدعو إلى هدم الثوابت الدينية صراحة، فهو يبدأ بتفنيد الدعوات المتطرفة من المعسكر الآخر أولاً، التى لا تحتاج فى الواقع إلى مجهود لتفنيدها لما تحتوى عليه من تطرف يثير السخرية، ثم يأتى بالحجة التى تمكنه من تمرير ما يريد للمشاهد بعدها، الذى يصبح فى هذا الوقت مستعداً لتقبل ما يقول أياً ما كان، والأخطر أن القضايا التى يناقشها هذا البرنامج ومقدمه لا يفترض أن يتم عرضها على العامة من الأساس، بل تتم مناقشتها بين المتخصصين فقط، لأن تلك المناقشات تحمل من الجدل والأدلة المنطقية ما يجعلها سبباً للفتنة بكل سهولة، ومقدم البرنامج يحمل من هيئة العالمين ما يجعله مقنعاً للكثيرين، فعلى الرغم من فساد القضية من أساسها فإن الأدلة التى يقدمها تصبح مقنعة بالفعل إذا لم تتم مناظرتها بالأدلة المضادة، كما أن كثيراً من القضايا التى يناقشها تذكرنى كثيراً بالجدل العباسى الشهير بشأن خلق القرآن، الذى لم يستفد منه الإسلام بقدر ما أضره!!
لقد استغل مقدم البرنامج الشاب قوة حجته التى تقوم على أساس علمى فى معظم الأحيان، ليشكك فى الكثير من ثوابت الدين الحنيف، معتمداً على أن المشاهد لا يستطيع أن يناظره بالحجة، ودون أن يأخذ فى الاعتبار أن الدعوات التى يدعو إليها لإعمال العقل فى النصوص تستلزم أولاً الحد الأدنى من التعليم، الذى يفتقده كثير من مشاهديه، فقام بتصدير الشك فى نفوس الكثيرين.
إن الحرية الفكرية حق لا شك فيه، وفتح آفاق جديدة للتفكير وإعمال العقل فى الدين لهو واجب على كل ذى عقل وعلم، كما أن إنكار العلم على مقدم البرنامج -بصرف النظر عن رأيى فيما يطرحه من قضايا- لهو عبث، ولكن عرض تلك الأفكار على شاشة التلفاز دون تمييز غير مقبول، والخلط الذى يقع فيه أصحاب الدعوات التنويرية فى هذا الشأن لهو خطر يحدق بالمجتمع كاملاً.
لقد أصبحت المرجعية الدينية المتمثلة فى الأزهر الشريف فى تحد واضح وصريح للوصول إلى الإسلام الوسطى الجميل الذى عشنا وتربينا من خلاله، فإذا كان الأزهر -ونحن معه- نريد إسلامنا الجميل.. فإننا وبالتأكيد لسنا «مع إسلام»!!
فهل ينتفض الأزهر ليؤدى دوره؟