شاب فى الواحد والعشرين من العمر، وطفل فى الثالثة عشر، منفذا عمليتى القدس التى هزت عرش اسرائيل، ردا على ارتكاب قوات الاحتلال مجزرة مخيم جنين، هما نموذج ورمز لجيل فلسطينى جديد، لا تستهينوا به، هذا الجيل الذى لم يعش ضياع فلسطين فى النكبة، ولا قهر النكسة، غير أنه فتّح أعينه على مشاهد أشد قسوة وهو مرغم عليها، يتعايش مع القتل اليومى، والاعتداء المستمر من قطعان المستوطنين، وجيش الاحتلال الاسرائيلى، والتهجير القسرى، وهدم للبيوت، ومنع البناء، والاقتحامات المتكررة على المسجد الأقصى، ومنع الفلسطينيين من الصلاة فى أماكن عبادتهم، يعانى من الظلم والبطالة والإحباط.
ينظر هذا الجيل من عليائه وكله إيمان بأن الاحتلال زائل مهما طال الزمن، يتجرع مرارة القمع من احتلال غاشم، هو الأطول فى تاريخ البشرية، والأعقد فى قاموس احتلال الدول.
فكيف يمكن أن يروض هذا الجيل، ليعيش مستسلما لواقع لم يكن يوما منصفا له، ولا لأدنى مقومات الحياة؟ كيف نطالبه بالتعايش مع هذا القهر والضيم دون أن يفعل شيئاً؟! لماذا يتهم بالارهاب وهو المجنى عليه؟ والجانى يقتل ويسجن ويقتلع الشجر والحجر! يتعرض لأقسى أنواع التنكيل والتعذيب، يُحاربْ فى رزقه، مهدد فى استقراره، مطالب بالصمت والصبر على سجانه الذى سلبه أبسط حقوقه الانسانية فى أن ينعم بوطن حر، كما ولد حراً، مجبر بأن يكون مسالماً، لا يحلم بأكثر من كسرة خبز، مغمسة بالاهانة والعار، كى لا ينعت بالارهابى!.
"عمليتا القدس" الأخيرتين، وضعت حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية الأكثر تطرفاً على المحك، كيف ستتعامل مع هذا الطوفان الغاضب؟
من جيل رضع كل مكونات اليأس، الناتج عن احتلال مارق، فلم يعد يحتمل هذا الجبروت والطغيان، دون أن يصدر عنه رد فعل عما يتعرض له من إذلال وقتل وإهدار للكرامة، خاصة أن الضرورة لدى الاحتلال دائما حاضرة.
لم تعد المقاومة قاصرة على تنظيمات فلسطينية بعينها، الخطر القادم بالنسبة لاسرائيل هو هذا الجيل الثائر، الذى لا ينتمى تنظيمياً لأحد، ولا يوجد لدى أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية أى معلومات عنه، وهو أشبه بالقنبلة الموقوتة التى لا تستطيع أجهزة الأمن الاسرائيلية بكل تقنياتها، معرفة متى ولا كيف ولا أين يمكن أن تنفجر؟.
فمع كل تصعيد للاجراءات العقابية التى تمارسها اسرائيل ضد الشعب الفلسطينى، يزداد الاصرار الفلسطينى أكثر.
إن العقوبات الجماعية التى تحاول اسرائيل فرضها على المقاومين وعائلاتهم من تهجير، وهدم لبيوتهم واعتقال لذويهم، ما هو إلا حلقة من حلقات الردع التى لا تنتهى، ورغم قسوة وعنف هذه الاجراءات إلا أنها أثبتت فشلها، ولم تعط النتائج المرجوة على صعيد الأمن الاسرائيلى.
فبعد عمليتى القدس، يحاول رئيس الحكومة اليمينى بنيامين نتنياهو، سن قوانين جديدة لردع المقاومة، وهناك مشروع قانون للسماح بترحيل الفدائيين الذين يتلقون تعويضات مالية من السلطة الفلسطينية، واقتراح من مجلس الوزراء بترحيل عائلاتهم أيضا، بعد سلسلة من الهجمات الفدائية على القدس، وهى المرة الأولى التى يتم فيها اقتراح مثل هذه الفكرة، ورغم أن اقتراح سحب الجنسية، وترحيل علائلات المقاومين الفلسطينيين، حظى بتأييد واسع فى كل من التحالف والمعارضة الاسرائيلية، إلا أنه لن يكون على أساس قانونى مؤكد، فهناك مبادئ في القانون الدولى، لن تسمح بذلك، لذا قد لا يتم قبوله دوليًا، لأن ترحيل العائلات عمل غير إنسانى، ولا يمنع تهديدًا أمنياً.
فما الخطر الذي تمثله العائلات؟! إنه عقاب جماعي بمعناه الأكثر تميزًاً.
والعقاب الجماعى غير قانونى فى القانون الاسرائيلى الداخلى، كما فى اتفاقيات جنيف لعام 1949، التى تؤكد أنه لا يمكن معاقبة الناس على فعل لم يرتكبه، حيث يعتبر العقاب الجماعي جريمة حرب على نطاق واسع. وبموجب اتفاقيات جنيف، فإن الذي يسيطر على المنطقة، عليه أن يحافظ على الحق في الحياة والأمن في منطقته السكنية.
وبموجب اتفاقية جنيف الرابعة أيضاً، عندما يكون هناك احتلال عسكري، يُحظر إجراء عمليات نقل جماعي قسري للمدنيين، الذين ليسوا من جنسية الدولة المسيطرة. والضفة الغربية أرضًا محتلة، وهنا يمكن القول في المحافل الدولية أن إسرائيل تنتهك هذا المبدأ.
والأهم أن الاجراءات العقابية التى تحاول اسرائيل تغليظها منعا لعمليات المقاومة، لن تردع المقاومة من استمرارها فى النضال ضد الاحتلال.
المقاومة عقيدة من احتلت أرضه، حتى دحر هذا الاحتلال، والجيل الفلسطينى الشاب الذى ترعرع على صوت الرصاص، وهدير الدبابات، وشاهد اقرب الناس إليه يقتل ويسحل ويعتقل ويهدم بيته، وتهجر عائلته وو..، كل هذا القهر الذى رسخ فى أذهانهم، لن يثنيهم بعده أى إجراءات عقابية، يقرها الاحتلال لردعهم أو إرهابهم. بل ربما يزيد من قوام إصرارهم على المقاومة والتضحية.