نحن -دولة وحكومة وشعباً- فى مفترق طرق عديدة، لكن أبرزها طريق الاقتصاد، ولو نجحنا فى المرور من الأزمة الاقتصادية متعددة الأبعاد الحالية، سننجو ونعدل المسار نحو طريق القفزات والإنجازات التى طال إرجاؤها وهرمنا من أجل تحقيقها على مدار عقود تزيد على الستة.
ومن يقول إننا لسنا فى أزمة، فهو يضحك على نفسه قبل أن يضحك على الآخرين، ومن يقول إن الأزمة ستذهب لحال سبيلها بالدعاء فقط وكل ما علينا فعله هو الصبر والرضا، فهو غارق فى مياه البطيخ لأن الله لا يساعد المتواكلين المكتفين بالدعاء دون العمل والرضا دون جهد.
ومن يحاول الإيحاء بأن ما نكابده هذه الآونة من مصاعب أمر سهل وهين، ناهيك عن كون المعاناة جزءاً من معاناة عالمية لم تترك بلداً إلا أصابته أو اقتصاداً إلا ألحقت به ضرراً، ولذلك علينا بالوقوف مكتوفى الأيدى إلى أن يحلها ربنا من عنده، فهو أيضاً متواكل ويعتنق فكر الخرافة ومنهج تسكين الآلام عبر لمسها حتى تحل البركة.
بالطبع نأمل جميعاً أن تحل البركة وألا يتم تسكين آلامنا، بل علاج أسبابها بالإضافة لعلاج آثارها. والحق يقال إن الحكومة المصرية تتخذ خطوات عديدة منذ تأكدت ملامح الأزمة الطاحنة فى الأفق، وذلك للتخفيف عن كواهل الطبقات الأكثر احتياجاً، وهذا رائع.
لكن الأكثر روعة هو أن يكون هذا التخفيف مستداماً، ليس فقط للطبقات الأكثر احتياجاً، ولكن ما فوقها بقليل، وهى تلك الطبقات التى تمضى قدماً فى طريقها للحاق بالقاعدة.القاعدة المعمول بها فى بناء الأمم، وهى الفرصة الذهبية التى تلوح أحياناً فى قلب الأزمات، حيث يتقرر إعادة البناء على «مياه بيضاء» بديلاً عن الترميم والترقيع، هو أن يشمل الإصلاح الاستثمار فى رأس المال البشرى لأنه الطريق الوحيد نحو استدامة البناء والإصلاح والنهوض.
وبحسب ما قاله «البنك الدولى» فى شأن مصر قبل أسابيع، فإن الاستثمار فى رأس المال البشرى جزء لا يتجزأ من جهود التنمية على المستوى القومى، وأن مصر قطعت شوطاً كبيراً نحو بناء نظام أكثر تكاملاً وشمولاً للحماية الاجتماعية.
واستشهد البنك الدولى ببرنامج «تكافل وكرامة» الذى تمتد مظلته لنحو 3.69 مليون أسرة أى نحو 13 مليون مصرى ومصرية، بالإضافة لأن النساء يمثلن 74 فى المائة من المستفيدين، و67 فى المائة من المبالغ النقدية يتم توجيهها للمستفيدين فى الصعيد.
وهذا هائل وعظيم ولم يحدث من قبل، حيث كانت أغلب الإجراءات تخفيفية ومؤقتة ولا تأخذ خصوصيات الأوضاع الاقتصادية فى مناطق أكثر من غيرها.
لكن البنك الدولى ذكر أمراً بالغ الأهمية أيضاً عقب تقديم تمويل إضافى لنا قيمته 500 مليون دولار فى ديسمبر الماضى، وهو أن التمويل يهدف إلى «تعزيز حصول الفئات الفقيرة والأكثر احتياجاً على فرص الشمول الاقتصادى، ما يمهد الطريق لتوفير سبل أكثر استدامة لكسب العيش ولا تعتمد على التحويلات النقدية».
والحقيقة أن هذا هو عين العقل وغاية المنى وكل الأمل. أكياس اللحم وكراتين الأرز والزيت والدعم النقدى الإضافى وغيرها أمور بالغة الأهمية للتخفيف من حدة الأزمات بشكل عام، لكنها تؤكل وتنتهى ويتوقع الحصول على غيرها وبالطبع يُنتَظر زيادة كمياتها لأن الأسر يزيد عددها، ومنها ما يلجأ إلى ضخ المزيد من العيال باعتباره ضخاً استثمارياً لإضافة «رأس» جديد يدر دخلاً إضافياً.
استدامة كسب العيش يجب أن تكون شعار وقلب وعين وعقل المرحلة، لا سيما أن الطبقات التى كانت تظن أو تعتقد أو تتمنى أنها بعيدة عن قاعدة الهرم الاقتصادى والاجتماعى محملة هى الأخرى بأحمال لا طاقة لها بالمزيد منها، بالإضافة لشعور يعترى بعضها بأنها تمول عملية ضخ العيال فى الطبقات التى تليها، وذلك بأشكال عديدة غير مباشرة.
المطلوب إذن والمأمول الآن هو «استدامة الحلول». ونحمد الله كثيراً على أن درجة الوعى الشعبى بأوضاع العالم وما يجرى حولنا تحسنت كثيراً.
ولكن، حتى يشعر المواطن، سواء المستفيد مباشرة من برامج الحماية أو المهدد بالاستفادة بها فى حال استمرت الأوضاع الصعبة، بتحسن الأمور أو بأن الضوء يلوح فعلياً فى نهاية نفق الأزمة، فإن استدامة الحلول تتطلب حزمة من البرامج الفعلية.العالم غارق فى أوضاع اقتصادية هشة.
التضخم العالمى أعلى بكثير مما كان متوقعاً، والاضطرابات الناجمة عن حرب روسيا فى أوكرانيا تؤثر على تفاصيل الحياة الصغيرة قبل الكبيرة فى أغلب دول العالم.
والتوترات الجيوسياسية عارمة، والقائمة طويلة، لكن طولها ينطبق على الجميع، و«كل واحد عقله فى راسه يعرف خلاصه».وخلاصنا فى مصر يكمن فى الاستثمار فى رأس المال البشرى، والاهتمام بالكيف أكثر من الكم، القنبلة السكانية والإنجاب دون هوادة لم تعد رفاهية نتحملها.
إعادة البناء تتطلب تضافراً وتعاوناً كاملاً بين الدولة والمواطن، وفهماً بأن لا الدعاء وحده يرفع البلاء، ولا المساعدات فقط تدرأ خطر الأزمة، البلاء والأزمة والمضى قدماً تتطلب إرساء قواعد منطقية سبق ونهضت بها الأمم.