يعتقد البعض خطأ أن الكلام المرسل الذي يمكن أن يكون مقبولا في "بوست" أو "مقال" أو "لقاء تليفزيوني" حول تشخيص وطرق علاج مشكلة ما، يصلح دائما أن يكون حلًا حقيقيًا للمشكلة.. على المستوى القومي المشاكل مُعقدة للغاية، والحلول أشد تعقيدا، ولا يمكن لأي حل أن يكون مرضيا للجميع أو بدون آثار جانبية.
هذه مقدمة ضرورية لكي نتحدث عن إفلاس 3 بنوك أمريكية خلال أسبوع واحد، حينما تبحث وراء الأسباب، تجد أن سببا رئيسيا في إفلاس بنك "سيليكون فالي" هو إجراء رفع الفائدة من قِبل الفيدرالي الأمريكي!
السبب ببساطة أن البنك كان يمتلك سندات طويلة الأجل اشتراها في الماضي، بفائدة أقل كثيرا من مستويات الفائدة السائدة الآن، ما يجعل قيمتها تنخفض فحدثت أزمة لدى البنك أدت إلى الذعر ثم إلى عدم قدرته على الوفاء بعمليات السحب المكثفة. هل كان الاحتياطي الفيدرالي يتخذ قرارات عشوائية أو ضارة وهو يقرر رفع الفائدة؟ إطلاقا، كل التصريحات تتحدث عن محاربة شبح التضخم، وحتى لو جادل البعض في مدى فعالية أداة رفع الفائدة لكي تواجه الموقف الراهن بمعطياته، إلا أن الفائدة هي أداة فعالة ومعروفة في محاربة التضخم عموما.
إذن، هو قرار يهدف إلى كبح التضخم الذي لو تُرك في أي اقتصاد يمكن أن يلتهمه، ورغم ذلك وقعت الآثار الجانبية العنيفة التي أدت إلى إفلاس بنوك.
على المستوى النظري، يستطيع المتحدث تحييد العوامل الأخرى بخلاف ما يتحدث عنه، لكن على أرض الواقع لا يمكن أن يقرر الفيدرالي رفع الفائدة ويضمن تحييد العوامل الأخرى.
هذا مجرد مثال لمدى تعقيد عملية اتخاذ القرار على المستوى القومي.. ولكن لنعد إلى القاهرة.
دعنا نتحدث عن الأولويات: ما الأولويات التي يمكن للدولة أن تقرر توجيه كل الموارد إليها، مع وقف كل شيء آخر؟
ربما تقول التعليم.. وماذا عن البنية التحتية؟ جذب أي استثمار أجنبي أو حتى محلي عملية مستحيلة بدون بنية تحتية قوية، كما أن حوادث الطرق تمثل تكلفة على حياة المواطنين أنفسهم، ويكفي أن نتذكر جميعا أن الحوادث ووفياتها وإصاباتها انخفضت إلى النصف تقريبا بسبب مشروعات تطوير الطرق.
لمثل هذا، تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي عن "التحديات المتوازية".. العمل على كل الملفات.. وهو المسار الوحيد الذي كان أمامه كمسؤول لكي يضمن الحفاظ على بقاء الدولة أصلا، قبل الانطلاق والبناء.
هل يضغط هذا المسار على موارد الدولة؟ طبعا.. الموارد محدودة والاحتياجات ضخمة، لكن ومن قال إن أي قرار على المستوى القومي يمكن أن يُتخذ بدون آثار جانبية؟ حتى في الولايات المتحدة.. الدولة صاحبة الإمكانيات الجبارة!
الصورة "من فوق" دائما مختلفة تماما عمّا نظن..