في وقت سابق من الشهر الجاري، وقعت أحداث مثيرة في المجالين السياسي والإعلامي البريطاني، عندما قررت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إيقاف ظهور جاري لينكر مقدم البرامج الرياضية الشهير، وصاحب برنامج "ماتش أوف ذا داي" ذي الشعبية الضخمة على أثيرها، واللاعب الدولي البريطاني المرموق سابقاً.وكان ما فعله لينكر، وتسبب في صدور هذا القرار، أنه غرّد على حسابه الشخصي في "تويتر" منتقداً سياسات حكومة المحافظين إزاء الهجرة والمهاجرين غير النظاميين، وهو الانتقاد الذي كان حاداً وقاسياً على ما يبدو، خاصة لأنه شبّه هذه السياسات بالسياسات النازية.
ويبدو أن الحكومة تأثرت كثيراً بتغريدة لينكر المباشرة والناقدة، وهو الأمر الذي انعكس في تصريحات صدرت عن مسئولين رفيعي المستوى، عبروا خلالها عن "خيبة أملهم" جراء هذا الموقف، الذي صدر عن بطل كرة قدم قومي، ومذيع محبوب ومشهور، ومُغرد لديه أكثر من ثمانية ملايين متابع على "تويتر"، ومؤثر مُعتبر في الرأي العام البريطاني.
وفي ظل قيادة محسوبة على حزب المحافظين، أصدرت الهيئة قرارها بتعليق عمل لينكر، وهو الأمر الذي أثار ضجة كبيرة، واستنفر تضامنا واسعاً معه من قبل مذيعين وصحفيين ومشاهير آخرين، ما أدى إلى عودة الهيئة عن قرارها، ليعود لينكر إلى عمله، ويقدم برنامجه من جديد.
لكن الذرائع التي تم إيرادها من قبل "بي بي سي" لقرارها الأولي بتعليق عمل لينكر أثارت بدورها جدلاً كبيراً وخلافات بين المهنيين والمُنظرين والسياسيين وأفراد الجمهور؛ إذ رأى البعض أن احترام حرية الرأي والتعبير يفرض على الهيئة عدم محاسبة العاملين بها أو مقدمي البرامج على شاشاتها على آرائهم الشخصية مهما كانت معارضة للحكومة، باعتبار أن "بي بي سي" مملوكة للدولة وليس للحكومة، وأن من يمولها دافعو الضرائب.كما أظهر معارضو القرار مخاوف كبيرة من أن يكون السبب في تعليق عمل لينكر يعود إلى تأييد رئيس "بي بي سي" لحزب المحافظين الحاكم، وإلى سجل لينكر السابق في توجيه عديد الانتقادات لسياسات الحزب، وقدرته التأثيرية الواضحة التي يمكن أن تؤثر سلباً في صورة الحزب وشعبيته.
أما مؤيدو القرار والمدافعون عنه فقد استندوا إلى ذريعة ضرورة المحافظة على حياد "بي بي سي"، عبر منع العاملين فيها من التعبير عن آرائهم في الموضوعات السياسية التي ينقسم الجمهور بصددها على وسائط "التواصل الاجتماعي"، حتى لا يتأثر الجمهور بتلك الآراء ويخلط بينها وبين ما يقدمونه على الشبكة الإعلامية الأهم في البلاد.
ويبدو أن معارضي القرار انتصروا في تلك المعركة، وهو الأمر الذي انعكس في عودة "بي بي سي" عن قرارها، والسماح للينكر باستئناف تقديم برنامجه، استناداً إلى أنه ليس من موظفي الهيئة بل متعاقد مستقل معها، وأنه لا يقدم برنامجاً سياسياً بل برنامج رياضي، وهو أمر كان محل اختلاف بين المتخصصين الذين حاولوا تفسير مبادئ استخدام وسائط "التواصل الاجتماعي" للعاملين في "بي بي سي" كما تظهر في أدلتها التحريرية والإجرائية المُعلنة.
والشاهد أن مطالعة تجارب الكثير من المؤسسات الإعلامية العريقة، والبحث والتدقيق في مدونات السلوك وأدلة الإرشادات في المؤسسات الإخبارية البارزة في العالم المتقدم، يفيد بوضوح أنه من حق المؤسسة الإعلامية التي تعمل في مجال الأخبار أن تلزم الصحفيين فيها بعدم التورط بآراء شخصية في قضايا سياسية واجتماعية محل جدل وانقسام بين قطاعات الجمهور، بما يحفظ لتلك المؤسسة قدرتها على مقاربة تلك القضايا بالحياد اللازم والموضوعية المطلوبة، وبما لا يحرف مواقف الجمهور، ويزعزع الثقة في خدماتها الإخبارية.فثمة العديد من المشاكل الكبيرة التي تقع جراء الخلط بين آراء الصحفيين الشخصية وبين ما يقدمونه للجمهور من أخبار وتحليلات يُفترض أن تتوخى الموضوعية، وهي مشاكل تؤثر في عمل الصحفيين والإعلاميين، وفي حرية الرأي والتعبير، وفي حق الجمهور في المعرفة، كما تفجر عديد الأسئلة؛ مثل: هل يحق للصحفيين الذين يعملون في وسائل إعلام إخبارية أن يبثوا آراء شخصية عبر مواقع "التواصل الاجتماعي"؟ ومتى تصبح هذه الآراء "أخطاء"؟ وهل يحق لوسائل الإعلام أن تُلزم الصحفيين العاملين بها بقيود وضوابط في هذا الصدد؟والشاهد أن أي مؤسسة تبث أخباراً، وتُلزم نفسها بقواعد الحياد والموضوعية، وتريد أن تحافظ على سمعتها المهنية، يحق لها أن تُرسي سياسات استخدام لوسائل "التواصل الاجتماعي" للعاملين فيها طالما أنهم يعملون في مجال الأخبار؛ ذلك أن تلك القواعد يمكن أن تجنب المؤسسة شبهة الانحياز إلى طرف أو مصلحة يتفاعلان في قضية محل التباس أو جدل، بما يشوش على مهنيتها ويزعزع الثقة فيها.وبالطبع، فإنه كلما كانت سياسات المؤسسة في هذا الصدد عادلة وشفافة ولا تكيل بمكيالين، كلما تعزز نهجها وتعززت الثقة فيها.
لكن لينكر لا يعمل في مجال الأخبار، وليس موظفاً في "بي بي سي"، وربما كان هذا هو الدافع الرئيسي وراء ضغوط مناصريه التي قادت إلى عودة الشبكة عن قرارها بتعليق ظهوره، ومع ذلك، فإن "بي بي سي" أبقت الباب مفتوحاً لمراجعة أدلتها الإرشادية وبحث مسألة إخضاع من هم مثل لينكر لذات القواعد التي يتبعها الصحفيون العاملون في مجال الأخبار.