أبدأ بما استهل به الدكتور طه حسين كتابه «المعذبون فى الأرض»، فقد أهدى عميد الأدب العربى قصص الكتاب: «إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل، وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل، إلى أولئك وهؤلاء جميعاً، أسوق هذا الحديث».
وأتمنى أن يغفر لى «العميد» اقتباسى وتحريفى لعنوان كتابه، فقد فضلت أن أُرجِع العذاب إلى أصله، وقد تتساءل عن سر حديث «الظلم» ودوافعه، ولن أراوغ بأحاديث فضفاضة، فالحقيقة أمامنا.. عارية، يكفى نظرة صادقة لنرى ما يحيط بنا من مشكلات ومآسٍ، والتى إذا بحثنا أسبابها.. سنجد متهماً وحيداً على الدوام.. هو الظلم، فكلما أدرت رأسك لتستوعب ما يجرى حولك ستطاردك دموع المظلومين فى كل مكان.الظلم، هو أكثر ما يؤلم فى عالمنا المعاصر.. الظلم ممتد ويشغل مساحات شاسعة فى تاريخ البشرية وحاضرها، من ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه للآخر، أما أعظم الظلم.. فهو ظلم الإنسان لله، أى الشرك به، كما أكد المولى عز وجل فى سورة «لقمان»: «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
ومن المأثورات الشعبية التعيسة التى أكرهها: «يا بخت من بات مظلوم.. ولا باتش ظالم»، ولا ينافسها فى التعاسة عندى إلا أغنية «ظلموه» للعندليب الراحل عبدالحليم حافظ، التى يجسد فيها تجربة «قلبه» المسكين مع الحب.. وكيف تعرض لأكبر عملية غدر مشاعر فى التاريخ.. وللعندليب أيضاً أغنية أخرى عن الظلم لكنها لم تحظ بشهرة ظلموه، وهى أغنية «ظالم وكمان رايح تشكى»، وتاريخ «حليم» الشخصى والفنى يكشف هوسه بدور «المظلوم» الذى اقترن به حتى بعد مماته، والذى كان عاملاً رئيسياً فى جاذبيته وسراً من أسرار نجاحه، ولا ينافسه فى تمثيل الظلم وعشقه، إلا جماعة الإخوان المسلمين التى أدمنت أكذوبة «المظلومية» ونافست بها «الهولوكست» اليهودية فى ابتزاز العالم.
ومن رحمة المولى عز وجل علينا، أن يكون لكل ظلم نهاية، فلقد ذكرنى «Facebook» قبل أيام بما نشره صحفى زميل قبل عام يستنجد بكل معارفه ليرفعوا الظلم عن شقيقه المحبوس فى قضية «رأى»، والحمد لله فقد كان شقيقه من السعداء الذين شملتهم قرارات العفو الرئاسى المتعددة التى صدرت خلال عام 2022، والتى حركت المسكوت عنه فى هذا الملف المزعج، والذى منحه الاهتمام الرئاسى نتائج طيبت خواطر أهالى المساجين فى غير الجرائم الجنائية، أو المحبوسين احتياطياً فى قضايا قيد التحقيق وتمس أمن الوطن وسلامته.
وقد حرم الله تعالى الظلم حتى على نفسه، كما ورد فى الحديث القدسى: «يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّماً فَلَا تَظَالَمُوا»، كما ورد فى الحديث الصحيح، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَالظُّلْمَ، فَإِنَّهُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ».
وتتعدد ملامح الظلم ووجوهه التى تطاردنا فى أحداث حياتنا اليومية، سواء كان محلياً أو عربياً أو عالمياً، فلقد زُرِعت فتن بين الشعوب وتم تفكيك دول كانت مستقرة، تحت دعاوى رفع الظلم وتحقيق العدالة، وهى النداهة التى اختطفت بلاداً غالية علينا، فضاعت سوريا واليمن وليبيا، وفى الطريق السودان ولبنان، وسبقت العراق الجميع، وتبقى فلسطين دائماً نموذجاً حياً على الظلم البيّن فى تاريخنا المعاصر.
ومن «سايكس/ بيكو» التى مزقت الخريطة العربية، وظلمت الآلاف وشردت مثلهم وخلقت صراعاً مستمراً بين الأشقاء، مرورًا بكل نكبات العرب ونكساتهم وهزائمهم وصولاً إلى «الربيع العربى»، جرثومة الفوضى التى زرعها الغرب كى يستكمل تمزيق الخريطة إلى مزيد من الدول المبعثرة.. وكثير من الظلم للشعوب.
ويتجسد الظلم حولنا فى قسوة المشهد العالمى الراهن، عندما تختطفنا أطماع القوى الكبرى إلى حالة حرب ممتدة على الأراضى الأوكرانية، يصل أثرها إلى خارج المجال الأوروبى، فيطارد شبح الجوع الكثير من الدول الفقيرة، وبحسب مؤشر الأمن الغذائى العالمى فإن أكثر من 460 ألف شخص فى الصومال واليمن وجنوب السودان يتعرضون للمجاعة، ويقف ملايين الأشخاص فى 34 دولة أخرى على شفا المجاعة.
ونخشى أن يكون ما يجرى فى العالم حولنا وحصار البشرية بين الحرب والوباء.. ثم الزلازل، وبين الجوع والمرض.. ثم الهلاك.. هو ما يصدق عليه قوله عز وجل فى سورة الكهف: «وَتِلكَ القُرى أَهلَكناهُم لَمّا ظَلَموا وَجَعَلنا لِمَهلِكِهِم مَوعِداً».