وبدأ الشهر الكريم، شهر رمضان المبارك، الذي نترقب قدومه كل عام، ونستعد لحلوله بكل الأمنيات، داعين المولى عز وجل أن يهل علينا باليمن والبركات، فنخرج بإذن الله منه فائزين، وجزاء الصوم المقبول هو «الثواب العظيم»، وندعو الله أن نكون مع الفائزين، وندعوه أن يتقبل صيامنا وصلاتنا وقيامنا وصالح أعمالنا، وأن يرزقنا «الرحمة والمغفرة والعتق من النار».
وعن «فلسفة الصيام»، كتب الأديب والشاعر مصطفى صادق الرافعي مقالاً نُشِرَ في ثلاثينات القرن الماضي بين دفتي كتابه الشهير «وحي القلم»، تحدث فيه عن الصوم قائلاً: هو «فقرٌ إجباري يُراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح، أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمِّها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة».
ومع ثبوت هلال رمضان، تتأرجح طموحاتنا كل عام، فننوي من اليوم الأول الاقتصاد في الطعام وعدم الإسراف، وبعد أن ينتهي إفطار هذا «اليوم الأول»، الذي يشتمل على كل ملامح الكرم الرمضاني المعروف لدى عموم المصريين، تتحطم وتنهار أحلام «الرجيم» الاقتصادي، بين صنوف الطعام والأطباق الشهية، ومعهم نردد كلمتين ساحرتين خفيفتين على اللسان تسكنان ضميرنا الغذائي وتخدره: «رمضان كريم».
إن الكرم الرمضاني حقيقة نلمسها جميعاً، ولكن للأسف يسيء بعضنا فهم هذا الكرم ويسرف في استهلاكه مما يفسد عمله فيخرج مفلساً، وتضيع عليه العطايا الإلهية المتنوعة التي يهديها لنا المولى عز وجل في شهره الكريم.
والحديث عن ارتفاع استهلاك المصريين (والمسلمين عموماً) في شهر رمضان، ليس كلامًا مرسلًا، بل هو واقع أليم نعيشه كل عام، فالدراسات تؤكد أن نحو 83 في المائة من الأسر المصرية تغير عاداتها الغذائية خلال شهر رمضان، ويزداد استهلاك المصريين بشكل ملحوظ من جميع الأغذية، وبحسب تقرير غرفة الصناعات الغذائية المصرية، «فإن معدلات استهلاك السلع الغذائية خلال شهر رمضان يرتفع بمعدل 70 في المائة، عن باقي أشهر السنة، ويرتفع استهلاك منتجات اللحوم والدواجن بنسبة 50 في المائة»، فيما أشار تقرير حكومي إلى أن الأسر المصرية تنفق على الطعام ما يوازي 45 في المائة من إجمالي إنفاقها السنوي، وشهر رمضان وحده يستأثر بالنصيب الأكبر منها مقارنة بباقي شهور العام.
ورغم هذا السلوك الاستهلاكي المنافي تمامًا للشهر الكريم، فإن الأشد قسوة هو ما كشفت عنه إحصائيات سابقة، موضحة أنه يتم إهدار نحو 1.3 مليار طن من الغذاء سنويًّا حول العالم، وبتكلفة تزيد على تريليون دولار، وتُعدّ الدول العربية من أكثر الدول إهدارًا للطعام، خصوصًا في شهر رمضان، إذ تذهب أطنان من الطعام للنفايات، وتتصدر المملكة العربية السعودية قائمة الدول العربية الأكثر إهدارًا للطعام، إذ يُهدر المواطن السعودي 427 كيلوجرامًا من الطعام سنويًّا، وتتبعها الإمارات، بواقع 196 كيلوجرامًا، فيما أكد مسئولون في منظمة الأمم المتحدة للغذاء والزراعة «فاو»، أن الفرد الواحد في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يهدر 250 كيلوجرامًا من الطعام الصالح للأكل سنويا، لافتين إلى أن المواطن المصري الواحد يهدر 73 كيلوجرامًا من الطعام سنويًّا.مجمل ما تضعنا أمامه الدراسات، أننا أمام نمط سلوكي لا يقبله الإسلام، ولا يليق بالمسلمين الذين حَوَّلوا شهر الامتناع إلى صراع على الإشباع.. وتسابق معظمهم في شبق محموم على الملذات الزائفة، مفرطين في كل شيء، من الطعام إلى المسلسلات.
ولا أضيف جديدًا عندما أذكِّرُكم بحكمة الصوم، وقد انتخبت كلمات طيبات، مختصرات (بتصرف) من الخواطر الإيمانية لفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله) في تفسيره للآية الكريمة من سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، حيث ذكر أن الآية تحمل «تكليف محبة» من المولى عز وجل لـ«الذين آمنوا»، موضحًا أن الصيام سبب لحصول التقوى، والتقوى ميزة عظيمة وهي جماع الخير، وقد كتب علينا الصيام لنتقي الله، أي نتقي غضبه، ولنهذب شهواتنا، فكل معاصي النفس تنشأ من «شَرَهِ مادِّيَّتِها»، والصيام يضعف وقود المادية، والعبد إذا صام فإنه يتربّى على العبادة ويتروّض على المشقة، وعلى ترك المألوف وعلى ترك الشهوات، وينتصر على نفسه الأمّارة بالسوء ويبتعد عن الشيطان.وهذا العام، تفرض علينا الضرورات أن نجاهد أنفسنا أكثر، ونقتصد في استهلاكنا، فالأيام القادمة حبلى بالمخاطر التي لا يعلم مداها إلا الله، فلقد وضعت الحرب الروسية الأوكرانية العالم في أزمة اقتصادية كاسحة، بدأنا نتألم من أوجاعها في الشهور الأخيرة، وعلينا أن نستثمر المنحة الربانية في رمضان، ونتعود على قلة الطعام والشراب، وندرب أنفسنا على تقليص استهلاكنا إلى أدنى المستويات، وأن نعتبر رمضان فترة إعداد مجانية لاعتياد النقص في المواد الغذائية، وهو الثمن التي يستعد العالم لسداده مرغماً إذا استمرت المعارك.
واختم بوصف الأستاذ عباس محمود العقاد للشهر الكريم في كتابه «الإسلام دعوة عالمية»، قائلاً: «رمضان شهر الإرادة»، ثم يوضح: «أدبه أدب الإرادة، وحكمته حكمة الإرادة، ومن ملك الإرادة فزمام الخلق جميعاً بين يديه.
وإذا استطاعت الجماعة أن (تريد) ذلك التنظيم وذلك التغيير، فليس نمط من أنماط المعيشة لا تستطيعه على هذا المثال في الشدة أو الرخاء».
صوموا تصحوا.. وعندما تفطروا لا تسرفوا في طعامكم..
وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.. وكل عام وأنتم بخير.