حين خرج الزعيم الخالد أحمد عرابى ليقف فى وجه الخديو توفيق ويهتف بجملته الشهيرة: إننا خلقنا الله أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً، لم يكن يتخيل أن ثورته سوف تفشل، بل وأنها ستكون سبباً مباشراً فى دخول الجيوش الإنجليزية بصورة كاملة إلى الأراضى المصرية. لقد تم نفى عرابى ورفاقه إلى جزيرة سيلان بعدها، واحتل الإنجليز مصر لسبعين عاماً كاملة، الكل يعرف هذا، فالثورة العرابية يتم تدريسها فى الشهادة الابتدائية، ولكن الكثيرين لا يعرفون ما حدث بعدها، فقد عاد عرابى من منفاه بعد عشرين عاماً، وعاش فى مصر سبعة أعوام كاملة، قبل أن يموت ويدفن فى أرضها، الطريف أن عرابى حين عاد لم يستقبله الشعب المصرى استقبال الفاتحين الأبطال، ولم يقدر المصريون ما فعله من أجل وطنه، بل على العكس لقد تم التنكيل به من عامة الشعب، فقد حمّله الشعب مسئولية الاحتلال الإنجليزى، وتردى الأحوال الاقتصادية للبلاد، حتى أن المؤرخين يذكرون أن الأطفال كانوا يقذفونه بالطوب إذا رأوه، فعاش منبوذاً، ومات وحيداً! لم يكن عرابى سبباً فى الاحتلال الإنجليزى، وإنما اتخذه الإنجليز ذريعة لاحتلال مصر، لقد أنصف التاريخ عرابى بعدها، ولكن لم ينصفه الناس وقتها!
لا شك أن المتأمل فى ثورة يناير سيجد الكثير من أوجه التشابه بينها وبين ثورة عرابى، فقد فشلت فى تحقيق أهدافها، فإن كانت قد نجحت فى أن تسقط «مبارك»، فقد فشلت فى أن تسقط «نظام مبارك»!! بل وكانت سبباً مباشراً فى أن يتولى مقاليد الحكم جماعة فاشية كريهة، فقضى الشعب المصرى عاماً قاسياً، نود جميعاً لو أسقطناه من ذاكرتنا، لقد خرج من خرج فى يناير وهو يحلم بمستقبل أفضل، ومات وجرح وأصيب شباب طاهر نقى، كان يرغب فى أن يحول القليل الذى يملكه المواطن البسيط إلى كثير، ولكنهم للأسف -ولأسباب كثيرة- فشلوا فى أن يحافظوا للمواطن حتى على الفتات الذى يملكه، مما جعل الشعب يتمنى لو عاد النظام القديم، حتى يعيد إليه ما كان له، ولو كان الفتات!!
لقد أغفل الجميع أن الثورة أداة للهدم وليس للبناء، فاكتفت الثورة بإسقاط رأس النظام، ولم تسع لبناء نظام جديد، المشكلة أن التاريخ يعيد نفسه وبشدة، فالتنكيل الذى يتم ضد شباب تلك الثورة الطاهرة يشبه بالضبط ما حدث لعرابى، فقد حمّلهم الشعب مسئولية كل ما حدث، ورفضهم الكثيرون من البسطاء، وما زالوا، لقد تحمل شباب الثورة فاتورة التلفيات كاملة، ولم ينصفهم الشعب البسيط الذى خرجوا من أجله، بل وما زال شباب الثورة الذين نجوا من الموت فى تلك الأيام يدفعون الثمن من إقصائهم وتقييد لحريتهم وألسنتهم، ليس من النظام القديم فحسب، فالرفض الشعبى أقوى وأكثر قسوة، ربما نجحت ثورة يناير فى أن تكسر الخوف فى القلوب، وفى تحريك المياه الراكدة لأعوام طويلة، ولكنها فشلت فى تشكيل الدولة التى حلمت بها، فشلت فى استقطاب المواطن البسيط لأفكارها، فظل الحلم بالأمان ولقمة العيش هما أقصى أمنياته! لم تكن يناير جزءاً من مخطط إخوانى، بل استغلها الإخوان للوصول إلى الحكم على رقاب أصحابها، وتُرك شبابها يدفعون الثمن أمام الشعب، يوماً ما سينصف التاريخ شباب يناير الطاهر، كما أنصف عرابى، وسيذكر التاريخ أن من خرج فى يناير شباب وطنى مخلص، أحب تراب هذا الوادى الطيب، وأراد أن يخلق مجتمعاً صالحاً، سوف يذكر التاريخ أن يناير ثورة قامت من أجل الحرية والعدالة والكرامة، ثورة وإن دفع شبابها ثمناً باهظاً، ثورة وإن لم تنجح فى تحقيق أهدافها، ثورة.. ولو كره المغرضون!!