يتذكر كبار السن هذه العبارة «ع النوتة». كنا نذهب إلى البقال ونطلب منه ما نشاء من سلع ونقول له «ع النوتة»، ولم يكن البقال أو الجزار أو أى صاحب محل يتردد فى سحب النوتة ويسجل فيها حساب كل فرد ورد اسمه فيها، فلان هذا سحب أو اشترى فى اليوم الفلانى بخمسة قروش جبنة وفى اليوم العلانى بسبعة قروش حلاوة. وكان البقال يبيع الخبز أيضاً.
النوتة تعبير مصرى بتصرف لكلمة «نوت» الأجنبية، أى ما يدون فيه الملاحظات فتحولت إلى نوتة وانتشر استخدامها بين الطبقات الشعبية فى الأحياء الفقيرة، وهى كراسة صغيرة تصلح للوضع فى الجيب، وعدد ورقاتها قليل بغرض أن تكون صالحة للاستخدام لمدة شهر مثلاً وتستبدل بأخرى بعد ذلك. كان البقال بصفة خاصة أشهر من يستخدم النوتة، فالسلع لديه متنوعة ولا بد من التذكير بما اشتراه فلان أو علان، فمن الجبنة إلى الحلاوة إلى الخبز إلى العسل الأسود -لم يكن هناك عسل أبيض- وحتى مشروب «الكينا» المنشط والمقوى كان يبيعه البقال.
كانت النوتة عقداً بين البائع والمشترى لا يحيد أى منهما عن سجلاتها أو ورقاتها النحيلة. لم يكن أحد يجرؤ على التشكيك فيما ورد بها، وكان الحساب بين الطرفين يتم حسبما يتفقان، فلو كان المشترى عاملاً يمكن أن يكون الحساب أسبوعياً، ولو كان المشترى موظفاً يمكن أن يكون الحساب شهرياً.
كان البقال أو الجزار أو المكوجى بمثابة صندوق الجيران فى «الحتة» هو ممول بيوتهم بكل ما يحتاجون، كانت النوتة نموذجاً للتكافل الاجتماعى بين الفقراء بعيداً عن البنوك والقروض. كانت صفحات أى منها تحتوى على كلمات وأرقام تعبر عن الزمن الذى كانت فيه، فربما يكون اسم المشترى محمد أفندى أو الأسطى عليش السمكرى أو جودة العربجى أو الست أم حميدة الدلالة أو زبيدة الكودية.
كلها أسماء وألقاب ومهن معروفة فى ذلك الوقت كانت تحتويهم صفحات النوتة.كان لكل متعامل مع البقال نوتة خاصة به، ولو كان بعض المتعاملين قليلى الشراء فيمكن ضمهم فى نوتة واحدة لعدم إهدار الورق وصفحات النوتة، لكن يكون لكل منهم جزء خاص يضم عدداً من الصفحات، ولكل بقال طريقته فى تدوين الحسابات، لكن فى الأساس يحرص على تحديد اسم كل مشترٍ والتفريق فى اللقب بينه وبين أى أسماء أخرى متشابهة، فلو كان هناك اثنان اسمهما محمود، يكتب أن الأول محمود المكوجى وأن الثانى محمود القهوجى، بحيث لا تختلط حساباتهما وربما يكون أحدهما قد اشترى بمبلغ أكبر.
لو درسنا النوتة المصرية لوجدناها نظاماً اقتصادياً حقق نجاحاً كبيراً فى استقرار حياة المصريين فى الأحياء الشعبية ومنحهم السلام والأمان فى ظل ظروف معيشية صعبة. كان نظام النوتة سهل التطبيق فلم يكن البقال يتعامل إلا مع سكان الحارة أو العطفة أو الزقاق، وهؤلاء كان عددهم قليلاً يعرف كل منهم باسمه ويعرف مكان سكنه وله معه سابق خبرة فى التعامل، فهناك من يرحب بأن يبيعه «شكك» أو آجل، وهناك من يرفض أن يتعامل معه لسوء معاملته أو ربما لاعتياده ممارسة التسويف فى سداد ديونه.
اختفت النوتة واختفى البقالون والجزارون الذين يتعاملون بها -للأسف- فقد اتسعت المساحات وانفتحت الشوارع والحارات ولم يعد الناس يعرفون بعضهم كما كانوا فى زمن مضى.