أمتنع عن مشاهدة فيديوهات الذبح الداعشى، لأننى لا أحتمل مشهد إسالة الدم، وإن كنت شاهدت فيديو تدمير داعش لمتحف الموصل رغم ما فيه من حرق دم.
القطع الفنية الرائعة، التى عاشت منذ زمن بابل وآشور قبل ألفى عام سابقة على الميلاد كآثار تدل على حضارات عظيمة تم تدميرها بحماس واضح على يد رجال أشداء تقرباً إلى الله. البشر الطبيعيون يبحثون عن آثار الحضارات القديمة، ليتعلموا كيف عاش البشر فى قديم الزمن، وليعرفوا مسار الإنسان إلى الحضارة التى نعرفها ونعيشها الآن. إنه شغف البشر الطبيعيين لمعرفة ماضيهم والتعرف على أصولهم، لكن هذه كلها أشياء غريبة على إنسان داعش الذى نُزع منه الشغف بأى معرفة.
أربعة آلاف عام عاشتها هذه الآثار الفريدة. أنبياء ورسل مروا على هذه البلاد، ومن بعدها 1500 عام من الحكم الإسلامى، ولكن جماعة داعش وحدها رأت ما فى هذه الآثار من كفر وشرك بالله، فقررت هدمها. الملايين من المسيحيين والأزيديين والصابئة وغيرهم من غير المسلمين عاشوا فى بلاد حكمها الإسلام منذ مئات السنين دون أن يرى أحد فى مجرد وجودهم كفراً أو نقص إيمان. الداعشيون وغيرهم من المتطرفين وحدهم خرجوا علينا بهذه البدعة، فراحوا يقتلون الرجال ويسبون النساء، فارضين الرحيل على من بقى من غير المسلمين حياً أو خارج الأسر.
لا تصدق المتطرفين، ومن يبررون لهم عندما يدعون أن تطرفهم إنما هو نتيجة لأخطاء وإخفاقات الحاضر والماضى القريب، فالمتطرفون ينقلبون ليس فقط على الحاضر بكل سوءاته، وإنما ينقلبون أيضاً على ألف وخمسمائة عام من الحكم الإسلامى قبلها. لا تصدق المتطرفين عندما يدعون أنهم امتداد لأيام ازدهار حضارة الإسلام العظيمة، أو عندما يدعون الرغبة فى إحياء زمن علو الإسلام وقوة أهله، ففى أفعالهم تمرد على كل ما أتى به المسلمون فى زمن الحضارة والمجد والسطوة، فارضين علينا العودة إلى زمن الهمجية السابق على كل حضارة.
دين المتطرفين ليس هو نفسه دين الإسلام الذى أقام حضارة زاهرة، لكنه دين جديد تماماً حتى لو ادعوا غير ذلك. لا يكفى للمتطرفين أن يقرأوا القرآن مثلنا لكى نصدق نسبهم للإسلام، فأفعالهم تشى بغير ما نعرفه عن الإسلام وحضارته. المتطرفون فى داعش وأخواتها من جماعات المتطرفين هم نوع جديد من البشر لم يكن معروفاً فى أزمان سابقة، ودينهم الذى يدعون هو دين جديد تماماً لم نعرفه من قبل.
تأمل الداعشى مظهراً وسلوكاً، فستجده كائناً شاذاً غريباً. خلق الله الألوان كلها، لكن الداعشى لا يعترف من بينها سوى باللون الأسود، فجعل منه لباساً وراية له. يعترف الداعشى باللون البرتقالى لكنه يجعله رمزاً للكفر، ففرضه زياً للمحكوم عليهم بالإعدام فى محاكم داعش الفريدة. الداعشى يحرق الكتب، ويدمر آثار الحضارات السابقة، ويهدم القبور، ويحرم السينما والتلفاز، ويغلق المدارس والجامعات. عالم داعش هو عالم الرجال المسلحين المتشحين بالسواد، أما النساء فمكانهن خلف أبواب مغلقة ينتظرن فحولة وحوش تلغ فى دماء البشر.
عالم الداعشى الضيق يقتصر عليه وأقرانه وأسلحتهم. الداعشى لا يميز بين الأسلحة فكل ما يقتل محبب إلى قلبه من السكين حتى الدبابة. الداعشى يكره الصور لكنه يحب الكاميرات التى تبث للعالم وحشيته. الداعشى همجى لا يرى سوى القتل سبيلاً للتعامل مع مخالفيه، وعلى نفس صورته المتوحشة رسم لله عز وجل صورة لم يأت بها أحد من قبل. إله المتطرفين الداعشيين يعذب ويحرق فى نار جهنم -على أهون سبب- بشراً صنعهم بإرادته بكل ما فيهم من خير وشر، ونبل وخسة، وعقل وشهوة.
الداعشى إنسان ذو بعد واحد، ومن بين الشخصيات أحادية البعد يجند الداعشيون أعضاءهم الجدد. العالم المعقد متعدد الأبعاد الذى نعيش فيه أكبر من أن تحتمله عقول شبان داعش البسيطة. بدلاً من فهم العالم والتعامل معه فى تعقيداته، يختزل الداعشيون كل تعقيد العالم فى بعد واحد يليق بعقولهم الصغيرة. أهل داعش بعقولهم البسيطة لا يسعون لخلاص المسلمين أو نهوضهم كما يدعون. أصحاب داعش لا يسعون سوى لخلاص فردى بعد أن عجزت عقولهم الضيقة عن فهم عالمنا المعقد. عقول الداعشيين البسيطة ونفوسهم الهشة لا تحتمل عدم اليقين المميز لحياة البشر الطبيعيين. ليس لدى داعش منزلة بين منزلتى الإيمان والكفر، بل وسعوا الأخيرة، ووضعوا فيها كل من خالفهم، فقط لكى تطمئن قلوبهم المريضة أن فائتة لم تفتهم.
قصص الشبان المنضمين لداعش تنضح بضيق الرؤية وأحاديتها. الأمر لا يتعلق بما كان يفعله الداعشى قبل التحاقه بعصابة القتلة، ولكن بما إذا كانت حياته غنية متعددة الأبعاد والاهتمامات، أو ما إذا كان يهتم لشىء واحد فقط يملأ عليه حياته ويشغل نفسه، وهو نفس الشىء الذى يمكن استبداله بسهولة بوحشية داعش المفرطة. بعض الدواعش طلاب ومهنيون متفوقون فى مجالاتهم، لكنهم منبتّو الصلة بأى شىء خارج عالم التحصيل الدراسى الضيق. قد يهتم الداعشى قبل التحاقه بعصابة القتلة بجسمه بنياناً وصحة، أو يهتم بالمال أو النساء أو الكرة أو ألعاب الفيديو، ولكنه فى أغلب الأحوال لا يهتم لشىء سوى هذا الشىء الوحيد الذى أصبح وسواسه اللعين. بين شبابنا الكثيرين من أصحاب العوالم الضيقة والاهتمامات الوسواسية التى ترشحهم للانضمام لصفوف داعش إذا سيطر عليهم الشعور بالخذلان أو عدم اليقين أو الذنب، وعندها يكون لتفسير تافه شاذ عن الحاكمية والرزق الذى هو تحت سن الرمح فعل السحر الأسود. حصّنوا أولادكم بسعة العقل وتعدد الاهتمامات، وامنعوا تفسيرات التطرف الشاذة عن المنابر والكتب وصفحات الإنترنت، وحصّنوا دولكم بالعدل كى تجتازوا محنة داعش.