منذ عدة أيام نظم العاملون بالقطاع الصحى فى مدينة إيسين شمال ألمانيا وقفة احتجاجية، اعتراضاً منهم على إعلان الولاية عن عزمها إغلاق مستشفيين بها فى نهاية العام الحالى.الوقفة استقطبت عدداً أكبر مما كان متوقعاً.. ولافتات تحمل كلمات مثل «الصحة أولاً» و«لا لخفض الإنفاق على الصحة» انتشرت بين المتظاهرين الذين ارتدوا قمصاناً بعضها حمل بقعاً حمراء وكأنها ملطخة بالدماء.الطريف أن حكومة الولاية لم تلتزم الصمت.. بل ردت على المتظاهرين بأن ما سيتم توفيره من هذه المستشفيات سيضخ فى مجال الصحة ذاته ولكن بشكل آخر.. وهو ما جعل المتظاهرين أكثر هدوءاً.
فى الكثير من دول العالم يكون التركيز الأكبر من المواطنين على الإنفاق على القطاعات الخدمية من الحكومة.. ربما أكثر بكثير من سياساتها الخارجية.. فما يشغل بال المواطن هناك هو ما يشعر به على أرض الواقع.. ما يلمسه من خدمات تقدّم له نظير ما يدفعه من ضرائب.معظم الدول الأوروبية تعلن حجم إنفاقها على القطاعات الخدمية بشكل واضح ومنتظم.. وعلى رأسها قطاع الرعاية الطبية والتعليم.. ففى ٢٠٢٢ بلغ حجم الإنفاق فى الولايات المتحدة على الرعاية الصحية نحو ١٧٪ من الدخل القومى الإجمالى، الذى بلغ نحو ٢٦.٩ تريليون دولار.. بينما فى أوروبا تراوح الإنفاق بين ٥% فى رومانيا و١١.٥% فى فرنسا و١١.١% فى ألمانيا و١١% فى السويد.
المشكلة أن الإنفاق فى مجال الرعاية الصحية ليس له عائد اقتصادى يمكن قياسه بالمقارنة بالخدمات الأخرى.. فالعائد إنسانى فى المقام الأول.. وقيمته لا يتم رصدها إلا بعد سنوات طويلة وبمعايير مختلفة.وبنظرة اقتصادية مجرّدة، فما يتم إنفاقه فى مجال الصحة هو أموال بلا عائد.. ولكن بنظرة أكثر شمولاً، فالإنفاق هنا أكثر جدوى بكثير من معظم القطاعات الأخرى.. فأزمة فيروس كوفيد قد أثبتت للعالم كله قيمة وجود نظام صحى ثابت وقوى.. وعبّرت بشكل واضح عن أهمية ما يتم إنفاقه فى مجال الصحة من الحكومات.
فى مصر بلغ الإنفاق على قطاع الصحة فى العام الماضى نحو ٦٪، وهى نسبة ليست بالقليلة بأى حال، ولكنها غير كافية بالطبع.. تعدنا الحكومة بزيادة الإنفاق فى العام المالى الحالى أيضاً.. ولكن المشكلة الأساسية أن جزءاً كبيراً من هذا الإنفاق يذهب إلى توفير الاحتياجات من الأدوية والأجهزة الطبية والمستهلكات.. والتى يتم استيرادها من الخارج دون أن يفكر أحد فى تقنين هذا الإنفاق داخل مصر.
دول كثيرة تنتج نسبة كبيرة من احتياجاتها الصحية والطبية، فأمريكا ومعظم الدول الأوروبية تنتج الدواء والأجهزة الطبية ومستلزمات الرعاية الصحية التى تحتاجها.. بل وتصدّرها إلى دول العالم.. لم يتوقف الأمر عند ذلك.. فقد تبعتها الهند التى تعتبر قد نجحت فى تحقيق طفرة فى هذا المجال.. وهذا هو بيت القصيد.فى مصر نحتاج إلى خطة متكاملة لتطوير قطاع الدواء وصناعة الأجهزة الطبية ومستلزمات الرعاية الصحية على ارض هذا الوطن.. نحتاج إلى إنتاج بعض مما نستهلكه.. على الأقل لتكتمل الدورة الاقتصادية بشكلها التقليدى فى مجال الرعاية الصحية.
خطة بهذا الشكل ستنجح فى إعادة جزء كبير من الإنفاق الذى يحدث فى مجال الرعاية الطبية إلى المجتمع مرة أخرى فى صور مختلفة.. ستنجح فى تشغيل مصانع وأيدٍ عاملة مصرية.. ستتمكن خطة واضحة فى هذا الإطار من تحقيق منظومة متكاملة أكثر ثباتاً أمام المتغيرات العالمية.
إن العمل على وضع خطة بأقصى سرعة باستخدام خبراء فى الاقتصاد والصحة والتمويل سيكون له بالغ الأثر فى تحقيق نهضة متكاملة فى مجال الرعاية الصحية.. نهضة نحتاجها بشدة هذه الأيام.. أو هكذا أعتقد.