ركبَت إلى جوارى فى السيارة، وبدأت تتحدث بنهَم كعادة اللبنانيات صاحبات الحضور الطاغى عندما يُرِدن الحديث حول موضوع يشغلهن. قالت لى: «اسمعينى جيداً، لقد انتهزت فرصة أول سفر لى للخارج لأمُرّ (ترانزيت) هنا لأتحدث إليك وجهاً لوجه فيما كتبتِه حول أسباب فشل العلاقات الزوجية».
عبأت صوتها بشحنة أكبر من التحدى، وقالت: «لقد نسيتِ شيئاً آخر مهماً جدًّا».
استجمعتُ أنفاسى أمام كل هذه الطاقة التى تتحدث بها، فواصلَت حديثها دون أن تنتظر رد فعل، وقالت: «الحب الزائد أكثر ضرراً فى العلاقات الزوجية من عدم الحب، هل خطر لك هذا يوماً على بال؟ نعم، فلم يصل فى علاقتى به إلى هذا الحد سوى للحب الزائد، فهو يحب حد الجنون. الاهتمام الزائد والملاحقة فى كل مكان ومعايشة خوفه طوال الوقت -غير المسبّب- من رحيلى أفقدنى التوازن وأشبعنى ضغطاً نفسياً أيضاً، كنت حين أواجه مشكلة أو أمرّ بأى توتر فى عملى أو مع عائلتى أو حتى أغضب من نفسى لأى سبب لا أملك حق الانفراد بنفسى خمس دقائق، فهو يلاحقنى بالأسئلة والاستفسار والحديث المتواصل اعتقاداً منه أنه يهوّن على، فأموت أكثر من هذا الحصار، تشتعل أعصابى أكثر. قلت له يوماً: أرجوك، آخر ما أحتاج إليه الآن هو هذا الضغط. أنا فقط أريد هدنة، دقائق أخلو فيها مع نفسى، لأستجمع قواى.
أنا لا أكاد أترك صوته هنا حتى أجد وجهه هناك، لم يعد هناك متسع للتنفس. وحين اعترضت جاءنى رده متعجباً: (هل هذا جزائى؟! شكراً).
نعم، أعرف أنه يحبنى، ولكن قد وصل بأفعاله إلى حد لا يُحتمل، ما بين تليفون لا يكاد ينتهى حتى تلحقه رسالة، ناهيك باختلاق الأعذار التى لا تنتهى للحضور لى فى أى مكان أحضر فيه!! أصبحت أراه يحاصرنى إلى حد الموت، فقد حجب عنى النفَس لأبعد مما تتخيلين».
تنهّدَت مسترجعة حالها، ثم قالت: «أعرف أنك ستتهميننى بالبطر وتقولين بالمصرى الفصيح: (حد يطول!!). أنا أيضاً كنت أقول لنفسى ذلك إلى أن واجهت نفسى بالحقيقة. إننا فعلاً نحتاج إلى الحب والاهتمام، لكن كلما زاد الأمر على حدّه انقلب إلى ضدّه يا عزيزتى، وهذا ما قررت أن أتحرر منه حتى لا أموت من خنقة الملاحقة».
ظننتها لن تتوقف عن الحديث، لكنها فعلت منتظرةً منى تعليقاً، فقلت لها: «يا عزيزتى، حالتك هذه يمكن أن تكون حقيقة، ولكنها تدخل فى دائرة الاستثناءات».
قاطعتنى معترضة بلهجة حادّة، وقالت: «سأبرهن لك على أنها حالة متكررة، لقد ترك شريك أخى فى شركته زوجتَه بشكل نهائى مؤخراً. هو يقول إنها أجهدته عاطفياً. نعم، فهى تفعل كل شىء له حتى من قبل أن يطلبه، تهتم بأدق تفاصيل حياته، تفاجئه بمساعدات فى كل الاتجاهات حتى دون أن تُعْلِمه، معتقدة بذلك أنها تسعده.
جاءنى يوماً، وقال: (أنا حقاً مُثقَل بالمعروف منها، أشعر بأن على كتفى حِملاً من الجمايل يُثقل قلبى ويشلّ حركتى، أرانى مديناً لتصرفاتها واهتمامها طول الوقت، وهذا إحساس قاتل، يشعرنى دائماً بأن هناك دَيناً وأنا مجبر على ردّ هذا الدَّين وإظهار العرفان ولو حتى فى ابتسامة فى وقت قد لا أرغب فيه فى الابتسام، وإن لم أفعل كنت ناكراً للجميل. أشعر بتأنيب الضمير مع كل طلب لها، فأنا لا أستطيع قول «لا». كيف أفعل بعد كل ما تفعله معى؟ فأفعل كثيراً من الأشياء ضد رغبتى، حتى بدأت فى الانهيار تدريجياً وأصبحت أعيش معاناة لا تتوقف بين رغباتى الحقيقية ومواجهة اتهامى بأننى ناكر للجميل، وما أدراكِ كيف تكون الحياة بينهما!! كرهت إحساسى بأننى مَدين لها حد الموت، فلم أجد مفراً من تركها للأبد)».
يا الله! ما هذه الحكايات العجيبة التى جاءتنى بها زائرتى؟!
«الحب الزائد أعظم ضرراً من اللاحُب».. هل يمكن أن يفترق شخصان لأن حب أحدهما وصل إلى حد أكثر من قدرة الآخر على التحمل؟! نعم، فمع ضغط هذه المشاعر كيف يمكن أن تعيش انفعالاتك الإنسانية الطبيعية من حزن وغضب ورغبة وعدم رغبة أيضاً بشكل سوى؟ كيف ستمنع عن نفسك إحساسك الدائم بالتقصير وتأنيب الضمير تجاه كل هذا الحب؟
وجدتنى أجيبها، وأنا أستجمع أفكارى: «تأنيب الذات والشعور بالذنب الدائم والتقصير ليس شيئاً صحياً على الإطلاق داخل أى علاقة، وخصوصاً إذا كان الطرف الأول هو من يتبرع بفعل هذه الأشياء دون طلب الطرف الآخر أو احتياجه إليها. وقبل أن أخوض أكثر فى هذا الحديث دعينا ننظر من الجهة الأخرى. هل كان الطرف الأول ليفعل كل هذه الأشياء إن لم يكن يحب الآخر، حتى إن طلب ذلك؟ إذن هو يفعل ذلك من أجل نفسه وإرضاء حبه والإبقاء عليه، وإسعاد نفسه بوجوده دائماً فى حضرته، ليس من أجلك فى الحقيقة.
الآن أخبرينى، هل من العدل معايشة معاناة تأنيب الضمير والإحساس بالذنب هذه؟ هل سمعت يوماً عمن يعملون على عزلة من يحبون عن كل الأشياء والأشخاص حتى يبقوا لهم وحدهم ولا يشاركهم أحد فيهم، كى يجعلوهم دائماً محتاجين إلى وجودهم فى حياتهم، فليس هناك مصدر لأى شىء سواهم، يضجرون بشدة كلما كان هناك احتمال لوجود شخص يهدد سطوتهم على كل حياتك؟
هؤلاء هم تحديداً من ينطبق عليهم مثل «مِن الحُب ما قَتَل»، فلا شك هناك أنواع وألوان للحب يا عزيزتى، فكما هناك الحب الأبيض النقى الذى تتحقق أقصى غاياته عندما يرى المحب من يحبه سعيداً حتى إن لم يكن معه، هناك أيضاً الحب الأسود الاستحواذى الذى لا يعرف سوى التملك والتحكم، فلن يقبل أن تكون إلا له، ولا أشك أبداً فى أن هذا سيقتل الحب نفسه بالتدريج، لأن الحب يا عزيزتى لا يكون بلا حرية. وقد قال لى يوماً شيخى الطيّب: «كل شىء بالقانون»، يعنى لا زيادة ولا نقصان، وهو تماماً حال الأشياء التى تلزمك فى الحياة.
عدت بها إلى المطار، عانقتها لأودعها، وقلت: «قريباً سأكتب لك عن أنواع الحب كما أعرفها». قالت: «أتمنى ألا تنسَى بعد الآن». عانقتها مرة أخرى وقلت: «لن أنسى يا عزيزتى، (الحب الزائد أكثر ضرراً من اللاحُب).. صحبتك السلامة، وأنار الله دربك بالحب».