يكشف الفيلم التسجيلى «عن يهود مصر» للمخرج أمير رمسيس عن هوى مصرى ما زال يختلج فى صدور العديد من يهود مصر المقيمين بباريس بعد رحيلهم عن مصر إبان حرب ١٩٤٨ والعدوان الثلاثى ١٩٥٦.
اختار المخرج نماذجه من أبناء الطبقة الموسرة الذين تلقوا تعليمهم فى أرقى المدارس الأجنبية فى مصر وانخرط كثير منهم فى العمل السياسى من خلال تنظيمات سرية أو علنية، ويحملون -أى هذه الشخصيات -عداء جليا للفكرة الصهيونية وهو ما دفعهم إلى رفض الرحيل لإسرائيل. وتغافل تماما عن الذين رحلوا إلى ما أسموها أرض الميعاد وانضموا إلى المنظمات الصهيونية الإرهابية!!
إلى جانب مجموعة باريس، التقى المخرج نموذجين مدهشين من يهود مصر الذين رفضوا مغادرتها وأصروا على البقاء بها رغم ما لاقوه من تعسف وعنت وتعصب مقيت.. المحامى الكبير شحاتة هارون، القطب الشيوعى الذى كرس حياته للدفاع عن حقوق العمال -دون مقابل- وأوصى ألا يصلى عليه -بعد وفاته- حاخام إسرائيلى والثانى هو الناشط اليسارى ألبير أرييه الذى أشار إلى القرار الغريب الذى أصدرته السلطات المصرية بعدم الاعتراف بإسلام، أو مسيحية، أى يهودى تحول عن اليهودية بعد ١٥ مايو ١٩٤٨ وأن الدولة ظلت تعامله كيهودى -رغم إسلامه- وزواجه من مسلمة! ويعلق فى سخرية ممرورة أن هذا القرار سقط على يد مناحم بيجين!!
يشير الفيلم -أيضاً- إلى نقطة بالغة الخطورة، حول إجبار السلطات المصرية لليهود الذين تم ترحيلهم، على كتابة تعهد بعدم العودة وإسقاط الجنسية المصرية عنهم، وأن هذا التعهد ما زال ساريا!! وهو ما يطرح سؤالا شائكا حول مدى قانونية حرمان مواطنين مصريين ولدوا وعاشوا فى مصر لسنوات من حق العودة بسبب ديانتهم، وهو نفس ما يفعله الكيان الصهيونى مع الفلسطينيين، مسلمين أو مسيحيين.. ربما تأتى الإجابة أنها مسألة حساسة قد تفتح الباب لأعاصير إسرائيلية حول حق اليهود من أصل مصرى المقيمين بها، فى استرداد ممتلكاتهم المصادرة أو المؤممة.وهو تخوف مشروع قد يكون هو السبب الحقيقى وراء عدم إلغاء ذلك التعهد حتى الآن.
ركز أمير رمسيس على دور المصريين اليهود فى الحركة الثقافية والفنية، مذكرا بأسماء يعقوب صنوع وداوود حسنى وعائلة زكى مراد، ليلى وسميحة ومنير مراد ونجوى سالم وتوجو مزراحى وغيرهم، كما جابت كاميرته شوارع القاهرة والإسكندرية تتأمل -فى أناة- البنايات والمحال التى كانوا يمتلكونها، مما قد يثير التباسا لدى المتفرج فى أن الفيلم يروج لفكرة أن الثقافة الوطنية والبنية الاقتصادية قامت على أكتاف اليهود باعتبارهم يهودا لا لكونهم مواطنين مصريين
فى متابعته ومحاولة تفسيره لتطور العلاقة بين المجتمع المصرى وأبنائه من اليهود، من الإخاء إلى العداء، استند الفيلم إلى شهادات د. محمد أبوالغار صاحب كتاب «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات» ومؤرخ ثورة يوليو الكاتب الكبير أحمد حمروش ود. رفعت السعيد المفكر اليسارى المعروف والباحث الاجتماعى النابه عصام فوزى الذين أضاءوا كثيرا من النقاط الرمادية فى هذه العلاقة الملتبسة.
عبر بناء سينمائى محكم ساهم فى تحقيقه المونتاج والتصوير وباستخدام التعليق المباشر والحوارات الحية وعشرات الوثائق النادرة، قدم المخرج أمير رمسيس والمنتج هيثم الخميسى (مونتيرا ومؤلف الموسيقى) محاولة جادة وتجربة هامة للبحث فى المسكوت عنه -مع حساسيته- تجربة تستحق التأمل، رغم ما قد يحيط بها من شكوك ووساوس، وأنها قد تبدو -فى نظرالكثيرين- بكائية على مصائر يهود مصر، لكنها فى كل الأحوال تفتح بابا لإجلاء الحقيقة، ظل موصدا لفترة طويلة.