الأسبوع الماضى ألقى السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى كلمتين إلى الرأى العام، الأولى جاءت فى اللقاء الشهرى الذى يقوم فيه الرئيس بتسجيل كلمة حول مجموعة من الموضوعات والرسائل التى يريد سيادته طرحها على الرأى العام، أو لآخرين فى المحيط الإقليمى والدولى كما جاء فى رسائل سابقة. وحديث هذا الشهر أجمع معظم من تابعه على أنه عكس غضباً ما كان بادياً على الرئيس حتى وهو يحاول إخفاءه، كانت الأحداث فيما قبل هذه الكلمة المسجلة مزدحمة بما يستلزم بالفعل غضب الرئيس، خاصة على مستوى الأداء اليومى لأجهزة متعددة بالدولة، وكان التقاط خيط التململ المبرر فى بعضه وغير المفهوم فى بعضه الآخر هو فلسفة تشكيل كلمة الرئيس برؤوس موضوعاتها وتفصيلات ما جاء بها، لذلك جاءت الكلمة لتنقل تقييماً رئاسياً بأن هناك مسارات عمل يتحقق فيها العديد من الإنجازات بالرجوع لبعض من الأرقام والبيانات التى تعكس هذه الحقيقة، وبدا أن الرئاسة تمسك جيداً بالخيط الذى يوجد على طرفه الآخر رأى عام قلق ونشيط لم يكف عن طرح التساؤلات وتشكيل الانطباعات، تمثّل هذا الإمساك الجيد وعبّر عن نفسه فى اختيار العناوين الثلاثة الرئيسية التى جاءت بالكلمة، ففضلاً عن الإرهاب كان هناك مكافحة الفساد وترهل الجهاز الإدارى الضخم بالدولة، وإن كان العنوان الأول قد احتل قبلاً مساحة كبيرة فى التناول وإلقاء الأضواء عليه وعلى تحدياته ومخاطره، فقد جاء العنوانان التاليان لأول مرة بهذا الوضوح والمباشرة، ووضعهما فى صدارة حديث الرئيس هو اشتباك محمود لكون غيابهما عن الطرح من رأس الدولة كان إحدى نقاط تشكل الضيق المشار إليه.
اقتصر الطرح الرئاسى لمسألة مكافحة الفساد على ذكر آليات مستحدثة فى تقديم الخدمات تلتف على المطبات البشرية التى تسكن فيها منظومات الفساد الراسخة عبر عقود، وضرب مثلاً لذلك بخطة توصيل الغاز إلى المنازل لكسر حلقة الجشع والاستغلال التى تمارَس ضد المواطن فى بيع وتوزيع أسطوانات الغاز المدعومة، لا يختلف أحد على أن هذه الطريقة فى العلاج هى الحل النموذجى، وهى صالحة فى الأشكال الأخرى بالطبع فى حال وضع حلول تعبر المطبات والمنحنيات التى تمثل البيئة الحاضنة لهذا الفساد بأشكاله، لكن هذه الطريقة على نموذجيتها لا يخفى على أحد أيضاً أنها تحتاج لوقت طويل وإمكانات مادية ليست بالقليلة، لذلك يكون من المعقول أن يتم السير فى هذا الاتجاه بالتزامن مع استنفار الأجهزة الرقابية للدولة للاشتباك السريع مع مواطن الخلل الأكثر تعقيداً من مجرد استحداث آليات مبتكرة، فالأجهزة الرقابية للدولة جاهزة وقادرة على وضع أيديها سريعاً على مواطن الوجع وتصحيح الأداء بنسب كبيرة، بشرط توافر الإرادة السياسية والإعلان عن دعم كامل لهذه الأجهزة. وأظن ويظن معى الغالبية الكاسحة أن الشرطين متوافران فى الرئيس شخصياً كسلوك ومنهج عمل لمسناه جميعاً، وبالحديث عن فجوات التململ لدى الرأى العام تبرز تلك النقطة فى صدارة مشهد استُدعى له الرئيس وانتُخب ليقود ثورة إصلاح ويحارب أوضاعاً تحتاج المواجهة الصلبة وجهاً لوجه، وهى نفس الفجوة التى يحاول المشككون النفاذ منها عبر الحديث المتكرر عن استمرارية الأوضاع والآليات كما كانت عليه قبل ثورتين.
عن تلك المعادلة الأخيرة لم تمر ساعات محدودة بعد الحديث المسجل، وإذا بالرئيس فى جولة المصنع الحربى يلقى بكلمة مرتجلة مدتها 12 دقيقة أراها قد أصابت الهدف تماماً، فالحديث مباشرة ذكر بأننا إن كنا نعلم بحجم المشكلات وخطورة التحدى الذى سينتشلنا منه، فلا يمكن بأى حال من الأحوال الاعتماد على خطط تقليدية ومواجهة ميراث مثقل بتعقيدات ومشكلات حادة بطرق اعتيادية، الروشتة الموجزة التى أجاب بها على هذا التوصيف وفق نص كلماته تتلخص فى وجوب العلاج فى جميع المجالات «بفكر تانى وخيال تانى»، وبطريقة إلقائه المحببة وقف وضغط بعفوية على تلك الكلمات الأخيرة وكرر كلمتى «خيال تانى» ثلاث مرات متتالية، وضرب لهذا الخيال الجديد مثلاً غريباً جداً عميق الدلالة بالسؤال عن ضرورة وجود «خيال تانى» داخل الكلية الحربية وكلية الشرطة ثم الجامعات المصرية وأجاب هو: «طبعاً»، وغرابة المثال أن كليتى الحربية والشرطة من المفترض أنهما تسيران وفق قواعد صارمة ودقيقة ومنهج منضبط، فالإجابة عن كون الفكر والخيال الجديد لا بد أن يغزو حتى هذه الأماكن البعيدة نسبياً عن مدلولات هذا المصطلح. هذا هو الفارق الجديد، وهو وضع اليد الحقيقى على مكمن الترهل الفادح الذى لم يستحدث لا فكراً ولا خيالاً فى أى من مجالات العمل فى مصر، وكأن المشهد لا يجوز له أن يتقدم خطوة واحدة فى طريق التحديث والتطوير وابتكار الحلول، تلك الروشتة القصيرة التى استغرقت دقائق هى العناوين التى حلم بها المصريون فى ثورتين، وهى الأمانة الغالية التى حمّلوها الرئيس عن ثقة فيه، وتفصيلات تلك الكلمات هى التى صكت التعبير الأكثر شيوعاً الآن فى مختلف الأوساط، أن الرئيس بعد عام كامل ما زال يعمل وحده.