عند كتابة تلك السطور، لم تكن نتيجة امتحانات الثانوية العامة لهذا العام قد ظهرت بعد، ولم تكن ملايين الأسر التى انخرط أبناؤها فى تلك الامتحانات قد عرفت نتيجة التعب والسهر والقلق والإرهاق المادى، ولم تكن خرائط مستقبل أبنائها قد اتضحت.ما زال المصريون، أو قطاع كبير منهم، يظن أن نتيجة هذا الامتحان هى باب نجاح وازدهار أو حفرة فشل عميقة، وهو أمر يحتاج إلى تحليل اجتماعى عميق، كما يحتاج إلى درجة من الحذق فى محاولة فهم موضوع الثانوية العامة، وجرأة على تخطى ما يكتنفه من أفكار خاطئة ومبالغات.
من جانبى، ما زلت أعرف أن الطريقة التى يُدار بها التعليم فى مصر ما زالت بعيدة عن التوافق مع متطلبات العصر، وأن الجسارة مطلوبة من أجل إجراء تغيير جذرى يجعل هذه العملية التعليمية قادرة على خلق جيل جديد من المتعلمين القادرين على المنافسة وتلبية حاجات أسواق العمل المتغيرة.
لا يمكن لأى عملية تعليمية أن تحقق مراميها فى التطوير من دون امتلاك القائمين عليها رؤية واضحة للمخرجات المرجوة منها، وإرادة كافية لتفعيل التغيير والتحديث، وموارد تقنية ومادية وبشرية كافية لتنفيذ الأهداف.ويأتى تفهُّم الطلاب وأولياء أمورهم لهذه الرؤية وإيمانهم بضرورة التغيير، ومساندتهم له، كأحد أهم العوامل فى هذا الصدد؛ إذ لن يسهل تحقيق التغيير الإيجابى من دون تعاون كافة أطراف العملية التعليمية.
ويبدو أن قطاعاً واسعاً من الطلاب وأولياء الأمور لم يُبد القدر اللازم من تفهُّم عملية التطوير التى سبق أن حاولت وزارة التربية والتعليم تنفيذها، وهو الأمر الذى أدى إلى تجميدها لأجل غير مُسمى.
أحد العوامل الحيوية التى أدت إلى إخفاق تلك الخطة كان يتعلق بفقدان الفهم العمومى والمساندة اللازمة من الطلاب وأولياء الأمور، ومن ثم القدرة على الانخراط فيها بشكل إيجابى، ولعل تلك مسئولية مشتركة بين القائمين على عملية التطوير ومجتمع الطلاب.
والشاهد أن نسبة كبيرة من الطلاب وأولياء الأمور ما زالوا أسرى لمفاهيم قديمة تتعلق بأهداف التعليم وجودته وأسواق العمل، ولذلك فإن التعرف إلى حالة التوظيف المستقبلية يمكن أن ييسر التجاوب مع متطلبات التغيير.
يحدد تقرير «وظائف المستقبل 2040»، الصادر عن «مؤسسة استشراف المستقبل» فى أبوظبى أخيراً، 157 مهنة جديدة فى 20 قطاعاً ستسيطر على وظائف المستقبل، وتصبح أهم الوظائف المطلوب شغلها للأجيال الجديدة.
كما يؤكد توماس فرى، الباحث المختص فى مجال المستقبليات، الذى خصص جزءاً كبيراً من جهوده لاستشراف عالم الوظائف، إن «60% من وظائف المستقبل لم يتم اختراعها بعد».
ستتغير طبيعة الوظائف المتاحة فى أسواق العمل الوطنية والدولية، بحسب دراسات توماس فرى، تغيرات جذرية خلال السنوات المقبلة، إلى حد أن وظائف كاملة نعرفها الآن ونحرص على تهيئة أبنائنا للالتحاق بها ستختفى تماماً، وستنشأ بدلاً منها وظائف جديدة، بمسميات بعضها معروف وبعضها الآخر فى علم الغيب.
ويتعلق عدد كبير من تلك الوظائف بأنظمة الروبوتات، والبيانات الضخمة، وطواقم العمل الخاصة بقيادة الطائرات بدون طيار، وأنظمة الذكاء الاصطناعى المعززة للبشر، والنقل ذاتى القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والعملات الرقمية المشفرة، وتصميم أنظمة الاستشعار، والتعدين الفضائى، والطب الجينومى، وأنظمة التنقل الذكى عبر الأنابيب، والواقع «الهجين»، واللحوم المزروعة مخبرياً، وتكنولوجيا إنترنت الأشياء.
يتضح لنا أن عالم وظائف الغد سيكون نتاجاً لهذا الامتزاج بين التطور الرهيب فى الذكاء الاصطناعى، والتقدم المذهل فى تكنولوجيا المعلومات، وثورة الروبوتات، التى تسعى إلى تلبية احتياجات بشرية لا يبدو أن لها سقفاً.
لم يعد العالم متوقفاً على فكرة إحراز مجموع كبير فى الثانوية العامة، عبر آليات الحفظ والاسترجاع، بما يؤهل الطالب للالتحاق بواحدة مما اصطلحنا على تسميتها بـ«كليات القمة»، ولكن ما أصبحنا بصدده الآن ضرورة تطوير برنامج تعليمى حداثى، يُعلِّم وليس يُلقِّن، ويؤهل أبناءنا لمسارات عمل مبتكرة وحالة تنافسية جديدة، لم تعد قاصرة على ثنائية الطبيب والمهندس، كما تعودنا على مدى عقود طويلة.مهمتنا الآن تتلخص فى استيعاب التطورات الحاصلة فى سوق العمل، واستشراف مستقبلها، وإعداد أجيالنا المقبلة لعالم توظيف مختلف، سيشهد باطراد زوال وظائف وميلاد وظائف أخرى.ولذلك، فإن مقاربتنا العمومية لموضوع الثانوية العامة يجب أن تشهد تغييراً، وعلينا أيضاً أن نعود إلى فكرة الإصلاح التى سبق أن جربنا تفعيلها، لكن قدراتنا التقنية خذلتنا، وفهمنا العمومى لها لم يكن عاملاً مُحفزاً للصمود فى طريقها، وبذل الجهد، والانتظار، لكى تثمر ويحدث التطور المنشود.
لم تعد «كلية القمة» التى يدخلها أصحاب المجاميع الكبيرة هى الوسيلة المضمونة للظفر بمستقبل باهر، لأن سوق العمل تغيرت، وقواعد المنافسة تبدلت، وظهرت أنماط عمل جديدة، ووظائف لم نكن نسمع عنها، وهى تحظى بطلب، ويحصل العاملون بها على مزايا كبيرة.يجب أن تكون هناك حالة مراجعة شاملة لمدركات أولياء الأمور والطلاب عن الثانوية العامة، ومدركات القائمين على العملية التعليمية عن الطريقة المثلى لتعليم أبنائنا.سباق الدرجات المرعب الذى يخوضه طلاب الثانوية العامة، عبر أنشطة التلقين والحفظ، والدروس الخصوصية، والمذكرات، بات فكرة من الماضى، والجديد أصعب وأكثر تعقيداً؛ إذ يحتاج إلى عقل مؤهَّل لاستيعاب تطورات تقنية مذهلة لم يشهدها العالم من قبل.