كان الكهنة منذ زمن بعيد كانوا يلعبون دوراً فى تكريس الواقع وتبليعه للناس، فحين يتوقع الكاهن حدثاً، ويصدف أن يشهد الواقع تحقيقاً لحدسه أو تخمينه، فإن الناس تنصرف عن الحدث نفسه إلى الحديث عن الكاهن وقدراته الخارقة والعجائبية على التوقع، وتتقبل الحدث نفسه كأمر واقع، وتتعامل معه من منظور «التسليم بالمكتوب»، وتعالجه بالسُكات.
لقد توقع «سطيح» -كاهن العرب الشهير- العديد من الأحداث، التى شهدتها الأمة، بدرجة عالية من الدقة، توقع أن يكون أبوبكر خليفة للمسلمين، بعد وفاة النبى، صلى الله عليه وسلم، ثم عمر، ثم عثمان، وتوقع اغتيال عثمان، ثم تولى على واختلاف الناس من حوله، ثم انتقال الخلافة من بعده إلى ابنه الحسن، ثم ما كان من ملك بنى أمية، وطريقهم إلى الحكم الذى فرشته الدماء، وظل «سطيح» يحكى عما ستتعرض له الأمة من ملاحم وفتن حتى عصر بنى العباس.
إلى «سطيح» وغيره من كهنة العرب مثل «شق»، ذلك الكائن الأسطورى الذى كان عبارة عن نصف رجل، يعود الفضل فى اشتقاق مصطلح «آخر الزمان». وهو مصطلح كان من الطبيعى أن يظهر فى خطابهم المستشرف للمستقبل. فكل ما له أول لا بد أن يكون له آخر. ومصطلح آخر الزمان من المصطلحات الشائعة فى كل كتب التراث، خصوصاً تلك التى تتحدث عن الملاحم والفتن التى تسبق النهايات.
وواقع الحال أن لكل أمة أجلاً، أما الزمان فبيد رب الزمان، تماماً مثلما لكل فرد أجل، وكما أن لكل فرد نهاية أو آخراً، فلكل أمة نهاية أيضاً، والرواية العجائبية التى تختزنها كتب التراث حول الكاهن «سطيح» تشير إلى أنه كان يتحدث عن نهاية عصر «عرب الجاهلية»، وبدء عصر جديد هو عصر الوحدانية والإسلام. لقد كان النبى، صلى الله عليه وسلم، يقول: «ويل للعرب من شر قد اقترب» فى إشارة إلى الشر المتوقع الذى سيحيق بأهل الجزيرة العربية، بسبب تمردهم على دعوة الحق، والتخلى عن المشروع الحضارى للإسلام، الذى أراد الله لهم به العز والمجد، المسألة لم تكن توقعاً من النبى، بقدر ما كانت مسألة علمية بحتة أساسها أن المقدمات لا بد أن تفضى إلى نتائج، فالتمسك بالضلال وجحود الحق لا بد أن يؤدى إلى الضياع.
كل ما له أول لا بد أن يكون له آخر، لكن نهاية الحياة بيد الله وفى علم الله وحده، وكل الأحاديث التى تتردد عن آخر الزمان والحديث عن شخصيات مثل الأصهب والأبقع والسفيانى، وصاحب مصر وصحابى مصر، والترويج لمثل هذا الكلام، هى أمور تتشابه مع ما فعله كتّاب التراث، حين احتفوا بأحاديث «سطيح» و«شق» وروجوا لها لا لشىء إلا لتبرير خطوط الظلم التى سار فيها التاريخ، والانتصار للغالب الجالس على كرسى الحكم، دون اكتراث بما فعله فى سبيل الوصول إلى ذلك.
كان الكهنة والعرافون فى الماضى يقبعون داخل «مؤسسة التاريخ»، ويرقدون أيضاً داخل قصور الحكم، يهدون السلاطين والأمراء إشارات تبرر أفعالهم، وتمهد عوام الناس لتقبلها، واستقبال توقعاتهم -المتفق عليها أو المرتبة- وكأنها قدر مقدور وحتم محتوم.