لا يمكن فهم تكرار وقائع رقص بعض الطلاب أثناء مراسم التخرج الرسمية بمعزل عن مفهوم «السوشيال ميديا» وطريقة عملها، ومع الإقرار بأن ثمة الكثير من التفسيرات ذات الصلة بالأبعاد الاجتماعية والسلوكية والثقافية والتنظيمية التى يمكن أن تساعد فى فهم معظم تلك الوقائع، فإنها، على الأرجح، حدثت من أجل عالم هذه الوسائط الجديدة والنافذة.
يُرتكب الكثير من الوقائع من أجل عالم «السوشيال ميديا»، ويتحرك الكثير من الأفراد وفق إيقاع تلك الوسائط، وهم على استعداد لخوض معارك كبيرة، والانخراط فى وصلات من الدفاع أو محاولة تبرئة النفس، من أجل أن يحظوا بلحظة من لحظات النجاح البراقة.. أى الدخول فى قائمة «التريند»، وامتلاك قصة «سوشيالية» يسردونها عن أنفسهم، ويجترحون من خلالها مكانة مؤقتة وغير مستحقة، ويتذوقون عسل الشهرة ولو لساعات محدودة.
لا ينطلق هذا المقال من تخطئة فعل الرقص بطبيعة الحال، ولا ينهج نهجاً محافظاً أو متزمتاً فى هذا الصدد، لكنه مع ذلك لا يستسيغ، بأى صورة من الصور، ما أضحينا نراه من وصلات رقص على أنغام موسيقى المهرجان فى قلب الجامعات، وتحت نظر أعضاء هيئاتها القيادية والتدريسية، بل وبمشاركة بعضهم.
يُعد ذلك إغراء بمكانة المؤسسات التعليمية، وتقويضاً لهيبتها العلمية والاجتماعية، كما أنه يعكس سوية غير مقبولة ثقافياً وسلوكياً، وهو أمر يعطى أسوأ الانطباعات عن مجريات العملية التعليمية، ومخرجاتها، ومفهوم الضبط والتنظيم فى المؤسسات الجامعية.
من جانبى، أرى فى هذا السلوك الحاد وغير المقبول تجاوباً مع متطلبات عالم «السوشيال ميديا»، وهو أمر يشترك فيه الطلاب المتورطون فى هذه المشاهد للأسف الشديد مع بعض الأعضاء القياديين فى الهيئات التدريسية والإدارية بالجامعة، إذ يبدو أن الجميع فُتن بهذه الوسائط، ويريد أن يجرب حظه معها.
قبل سنوات، ظهر أحد «المطربين» الشعبيين على إحدى القنوات التليفزيونية محاولاً أن يشرح طريقته التي أمّنت له مكانة «متقدمة» بين منافسيه من «المطربين»، وعلى عكس ما سيعتقد كثيرون، فإنه لم يتحدث عن اختيار كلمات أغانيه، أو تدقيقه فى جودة اللحن وبراعة التوزيع، أو اعتماده على فريق علاقات عامة وتسويق محترف، لكنه اختصر تلك الطريقة فى عبارة لافتة، حين قال: «لو همشى على الحيط عشان الجمهور ينبسط هعمل كده»!
يمكن أن نعتبر ما قاله هذا «المطرب» الظريف ضرباً من خفة الظل وتكريساً لـ«عفويته» التى ذاعت عنه وباتت إحدى ركائز شخصيته «الفنية»، لكن من جانب آخر لا يجب أن نُغفل ما انطوى عليه هذا القول من دقة وإحكام واتساق مع واقع الحال فى المجال العام الذى نتابعه راهناً ونقاسى انفلاتاته ونُمتحن بغرائبه.
وببساطة شديدة، فإن ظاهرة «المشى على الحائط» التى أشار إليها هذا «المطرب» الصريح -على ما يبدو- موجودة بل وتزدهر بقوة فى واقعنا المعاصر، وإذا تعاملنا معها بوصفها كناية عن مجموعة من الأفعال التى تتسم بالحدة والغرابة وتستهدف جذب الانتباه، فسنعرف أنها تحولت منهجاً وأسلوب حياة.
وهنا سيثور عدد من الأسئلة التى يجدر أن نفكر فى الإجابة عنها لنفهم هذه الظاهرة، ومنها: هل ظاهرة «المشى على الحائط» جديدة على مجتمعنا؟ وهل هى ظاهرة عالمية نعايشها كما يعايشها غيرنا فى أصقاع أخرى من العالم؟ ولماذا تزدهر بقوة فى هذه الأثناء؟ وما أشكالها المختلفة؟ وما نفعها أو ضررها؟
وفى محاولة الإجابة عن تلك الأسئلة، يمكن أن نتفق على أن تلك الظاهرة جديدة بالفعل على مجتمعنا، ورغم أن بعض الممارسات التى تنتمى إليها كانت تظهر على فترات فى تاريخنا فإن ذلك الظهور لم يكن منهجياً ولا منتظماً ولا مطرداً، كما أنه لم يكن يجلب مكاسب لصاحبه فى معظم الأحوال.
وفى الإجابة عن السؤال الثانى، يمكن أيضاً أن نتفق أن بعض أشكال هذه الظاهرة تقع فى بلدان أخرى عديدة من العالم، لكن ليس بهذا الزخم وبهذا الانتظام، حتى إنه يمكن وصف حالتنا فى هذا الصدد بأنها حالة مثالية للبرهنة على نجاعة نظرية «المشى على الحائط».
وتبلغ هذه الظاهرة أوج ازدهارها فى مجتمعنا راهناً لعدة أسباب؛ أهمها هيمنة «السوشيال ميديا» على نطاقنا الاتصالى، وتماهينا الغريب مع أسوأ تجليات استخدامها، وارتهاننا البالغ لأحكامها الصارمة والمختلة أحياناً فيما يتعلق بالذيوع والتأثير والانتشار.
ومن أشكال ظاهرة «المشى على الحائط» التى نشاهدها بانتظام راهناً الميل إلى الإباحية؛ مثل ارتداء الملابس العارية والفاضحة بداعى «الموضة» أو «الحرية»، والرقص «المبتذل» فى غير الوقت والمكان المناسبين، والتفريط فى الخصوصية إلى حد تسليعها والمتاجرة فيها لحصد المشاهدات والإعجاب ومن ثم الشهرة والمال، ثم الأفعال الصادمة مثل استخدام الشتائم واللغة البذيئة فى الحوار عبر وسائط الإعلام «التقليدية» و«الجديدة»، أو انتهاج مواقف حادة لا يمكن فهمها أو الدفاع عنها، ثم العودة عنها بمنتهى السرعة إلى مواقف أخرى أكثر حدة.
لم يكن الرقص فى حفلات التخرج الجامعية سوى نوع من أنواع المشى على الحائط.. سلوك غريب وحاد وغير متسق.. أن ترقص رقصاً «مبتذلاً» فى محفل جامعى، وفى حضرة أساتذة كبار، هو نوع من المشى على الحائط، والهدف، على الأرجح، هو التريند، حيث عسل الشهرة، واجتراح الأضواء.