كثيراً ما أتوقف أمام الآية الكريمة التي تقول: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا».. فكيف يتخذ الخالق العظيم نبياً من أنبيائه خليلاً؟ وما معنى «الخلة» هنا؟ وهل هي تعني الصداقة بمعناها المتعارف عليه بين البشر؟
أظن، والله تعالى أعلم، أن ثمة آية أخرى في كتاب الله يمكن أن تفسر لنا هذا الأمر، إنها الآية التى تقول: «وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِى وَفَّى»، أى الذى أدى كل ما عهد الله تعالى به إليه. يقول «ابن كثير» فى تفسير هذه الآية: «وفّى إبراهيم فى جميع ما أُمر به، وقام بجميع خصال الإيمان وشعبه، وكان لا يشغله مراعاة الأمر الجليل عن القيام بمصلحة الأمر القليل، ولا ينسيه القيام بأعباء المصالح الكبار عن الصغار».
صفة الوفاء بما يوكل إليه وتحمل تبعات ذلك كانت من أعمق الخصال التى ميزت شخصية نبى الله إبراهيم، وقد تحمل فى سبيلها ما لا يتحمله بشر. تحمل غضب أبيه عليه، ولم يبال -رغم محبته له- من مواصلة دعوته إلى عبادة الواحد الأحد، وانتهى الأمر إلى تهديد الأب برجمه ثم طرده من الأسرة. واجه إبراهيم أيضاً قومه -وهو الفرد الوحيد الضعيف- بقوة وثبات، ولم يعبأ بتهديداتهم، وحين أقاموا له المحرقة، واجه أقداره بثقة كاملة فى الله العلى القدير، وأنه الوحيد القادر على إنقاذه، وأن علمه بحاله يغنيه عن سؤاله سبحانه وتعالى. وكان من الشجاعة الأدبية بحيث واجه الملك العاتى القاسى «النمروذ بن كنعان» وجهر بكلمة الحق فى وجهه، دون أن يخشى فى الله لومة لائم. وامتحنه الله امتحاناً عسيراً حين أمره بذبح ابنه، فسمع وأطاع، واستعد ليذبح ابنه بيديه، وهو الذى عاش عمره كله ينتظره ويحلم به.
عاش نبى الله إبراهيم عقلاً باحثاً متسائلاً عن حقيقة الخلق وحقيقة الخالق، يتأمل ويفكر حتى يصل إلى اليقين. عاش لحظة مع خالقه تمنى فيها أن يريه الله كيف يحيى الموتى؟، وحين سأله الله: «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن» رد عليه: «قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِى»، وكان الله رحيماً بعبده صاحب العقل المتسائل، فأراه بأم عينيه كيف يحيى الموتى. فهذا العقل المتسائل كان فى زمانه العقل الوحيد القادر على إلزام الغير بالحجة، كما فعل مع قومه حين طلب منهم أن يسألوا كبير الأصنام عمن حطم صغارها، وكما فعل من النمروذ حين حاول الأخير أن يثبت له ألوهيته فتحداه «إبراهيم» قائلاً: «قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِى بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِى كَفَرَ».
الخل الحقيقى هو «الخل الوفى»، وقد وفّى نبى الله إبراهيم فى كل ما أوكله الله تعالى إليه، لذلك اتخذه خليلاً، ومعنى الخلة هنا هى الاصطفاء، بمعنى اصطفاء «إبراهيم» بما لم يصطف الله تعالى به غيره، مثل هدايته إلى حقيقة الخلق والألوهية، وتعطيل قانون النار من أجله، فباتت لا تحرق حين ألقى فيها، ومعجزة رؤية الكيفية التى يحيى الله بها الموتى، ورزقه بالأولاد بعد أن بلغ من الكبر عتياً هو وزوجته.
إن هذه الخصال وغيرها التى اختص الله تعالى بها نبيه إبراهيم هى التى تعكس معنى اتخاذه خليلاً.. فموقع الخليل الوفى أن يعامله من اتخذه خليلاً معاملة خاصة متميزة تفرقه عن غيره، تماماً مثلما اتخذ الله تعالى من محمد، صلى الله عليه وسلم، حبيباً، حين اختصه برؤيته عز وجل، لما أُعرج به إلى السماء.