يمثل حديث رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو إلى مجلة «TIME» الأمريكية، منطلقاً جديداً لـ«بيبى» يحاول فيه تغيير صورته السلبية، ليصبح بطلاً عالمياً وصاحب مشروع إنسانى كمناضل وطنى يهودى، وهى عملية تجميل سياسى جرى تنفيذها بدهاء.
كان جزء منها «خطاب الكونجرس» ولقاءاته فى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى مكنته من القفز فوق جريمته فى غزة التى جعلته «مجرم دولى» ومطلوب للعدالة، ليقوم بتدشين معركته الكبرى مع طهران بتنفيذ اغتيال «هنية»، ليدخل إيران القفص مرغمة، ويضعها فى مواجهة مع العالم أجمع. وفى حواره السياسى الجرىء، أعلن نتنياهو «مانفيستو» لمشروعه السياسى، وقد منحته المجلة صفحة الغلاف ومساحة معتبرة لحوار صحفى مطول، اعتذر فيه لشعبه عما جرى فى 7 أكتوبر وانتقل إلى طرح رؤيته للحفاظ على أمن بلاده وتصوراته لليوم التالى فى غزة، ولمنطقة الشرق الأوسط كلها.
لا جديد فيما قاله نتنياهو، لقد وضع برنامجاً منمقاً لجرائمه، وتصوراً تجميلياً لأجندة حروبه وعملياته العسكرية فى المنطقة، وفى مقدمتها «الاغتيالات السياسية» التى أنقذت شعبيته فى إسرائيل وأعادته إلى المركز الأول بين منافسيه من رموز دولته، لينجو مؤقتاً من طوق مشاكله السياسية الداخلية، ويخرج بلاده وجيشه من وحل الإدانة الدولية لمذابحه فى غزة بعد أن منحها شرعية سياسية ودينية.
لم يفوت رئيس الوزراء الإسرائيلى الفرصة، وتعرض لمصر فى إشارة خبيثة، حول «محور فيلادلفيا» الذى برر احتلاله برغبته فى منع تهريب السلاح إلى حماس، وهى الفرية التى يرددها هو وصحبه من زمرة المتطرفين الذين حشدهم فى حكومته الائتلافية، وسبق أن تكرر الاتهام الباطل وفى كل مرة ترد مصر بحزم وقوة.
وجاء ذلك على لسان مصدر مصرى رفيع، قال إن «ترويج إسرائيل لمزاعم حول وجود فتحات أنفاق داخل الأراضى المصرية لا صحة له شكلاً وموضوعاً»، مؤكداً أن «مصر التزمت بأقصى درجات ضبط النفس منذ بداية الحرب فى غزه أملاً فى الوصول للتهدئة، ولتجنب دخول المنطقة فى دائرة مفرغة من الصراع».
وكنت يوم الخميس ضيفاً على الصديق العزيز الإعلامى كمال ماضى فى برنامجه المتميز «ملف اليوم» الذى يعرض على شاشة القاهرة الإخبارية، وعندما سألنى عن مصير «الهدنة فى غزة» فى ظل التصعيد الجارى فى المنطقة؟، فقلت له فى أسى: «نحن عالقون»، واستطردت فى شرح المشروح وطرح المعروف من جهد مصرى خارق برفقة الشقيق القطرى، وسيطى الأمل المفقود، وجهدهما الكبير فى جولات مفاوضات متعددة من أجل وقف القتال وتبادل الرهائن والمسجونين من الجانبين، وتوفير ممرات آمنة لإيصال المساعدات الإنسانية، ثم التفاوض بشأن وقف دائم للحرب المستمرة منذ عشرة أشهر، لكن فى كل المرات التى اقتربت الوساطة من النجاح، أفسدها نتنياهو.
تحدثت أيضاً عن تراجع قدرة أمريكا على ردع إسرائيل، ومنع نتنياهو من جر المنطقة كلها إلى حرب شاملة بسبب غزة وما يجرى فى غزة، وعجز إدارة بايدن عن إيقاف جرائمه فيها.
لم يدر بخلدى أن صوتى سيصل إلى القاطن فى البيت الأبيض، وأنه سيصدر بياناً ثلاثياً بعد ساعات قليلة، يجمع الدول الثلاث الراعية للهدنة، مصر وقطر وأمريكا، ويتحدث بشكل قاطع «على ضرورة إنهاء أزمة غزة بأقرب وقت ممكن والتوصل لوقف لإطلاق النار وإبرام اتفاق بشأن الإفراج عن الرهائن والمعتقلين»، وحدد الخميس القادم 15 أغسطس موعداً للوصول إلى اتفاق.
ورغم أن حماساً دولياً قد صاحب إطلاق هذا البيان الثلاثى، وكالعادة بالغ نتنياهو فى سرعة التجاوب معه وقبول إرسال وفد إسرائيلى لحضور جولة جديدة من المفاوضات. لكن لم يمنعه هذا التفاعل الإيجابى من توجيه جنوده فى صباح اليوم التالى لتنفيذ مجزرة جديدة، وضربة وحشية على «مدرسة التابعين» فى غزة، سقط فيها 100 شهيد وعشرات المصابين من النازحين الذين احتموا بالمدرسة قادمين من «بيت حانون» شمال القطاع، وذلك خلال أدائهم لصلاة الفجر، فى جريمة جديدة يندى لها الجبين.
ليستمر الوضع فى غزة وفى منطقة الشرق الأوسط جديراً بالوصف الذى نطقته بعفوية وأسى فى برنامج تليفزيونى.. وما زلنا عالقين.
نحن عالقون؛ بين ضعف الإدارة الأمريكية ودهاء نتنياهو وجبروته السياسى، عالقون؛ ما بين إسرائيل وإيران وصراعهما للفوز بمنطقتنا العربية والهيمنة عليها، عالقون؛ لأننا فقدنا إرادتنا كأمة عربية واحدة، تشرذمت دولها وباتت شعوبها تتقاتل من أجل أوهام صنعها لها الاستعمار، عالقون؛ لأن مصيرنا لم يعد بأيدينا، ومستقبلنا يخطط له غيرنا، ولا نملك إلا الرضوخ الاستراتيجى.