إن كل التنظيمات الإرهابية والمتطرفة الموجودة على الساحة تقريباً، بدءاً من «الإخوان» إلى «داعش والقاعدة» ثم التيارات الشيعية الولائية، تضع نفسها فى مواجهة الدولة، فهى تعتبرها لا شىء.. لا قيمة.. لأن مفهوم الدولة عندها مختل تماماً، إذ تستلهم تَصَوُّرها حول مفهوم الدولة على أن الخلافة هى النموذج الوحيد لها، مصيغة نظريات فكرية مثل الحاكمية، ومناهج حركية ورؤية قائمة على الثورية والطهورية لتحقيقها ولو بالقوة.
ولو بدأنا بجماعة الإخوان لرأينا أن كل سرديات المؤسسين الأوائل للجماعة حسن البنا وسيد قطب ترى أن الجماعة أكبر من الدولة، وأنهم ليسوا جزءاً منها بل هم أكبر منها، ومن هنا لم يقبلوا القيم الأساسية للمواطنة والعيش المشترك، ولم يلتقوا مع التقليد القانونىّ الغربىّ الحديث فى مفهوم الدولة.
ومن هنا عرّف حسن البنا الإسلام قائلاً: «إنه نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعاً. فهو: دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء».
أما سيد قطب فاعتبر أن الدولة بالكامل والمجتمع الذى يعيش فيها ليس إسلامياً، بغض النظر عن وصفه بالإسلامى، ما دام غير نموذجهم، والنموذج الوحيد للدولة هو «دولة الخلافة»، التى عبَّروا عنها بمصطلح «أستاذية العالم»، وأخذ مفهوم «الدولة الإسلامية» بمنظور قطب دلالات ثلاث متباينة: إنها الدولة الكلية الشاملة التى تطبق الشريعة الإسلامية المستوعبة كل تفصيلات الشأن الإنسانى فى دوائره الفردية والجماعية.
والشريعة هنا تعنى المنظومة القانونية بمفهومها الموسع، أى اضطلاع الدولة بتدبير وتقنين كل أمور البشر عبر معايير مضبوطة ونظم ملزمة هى أساس ومحور المرجعية الإسلامية.
وهنا لا بد من طرح السؤال: أليس الدستور يعتبر الشريعة مصدراً رئيسياً له؟ أليست قوانين الدستور تستوعب كل الشأن الإنسانى والمجتمعى؟ أليست الدولة الحديثة تضطلع بتدبير وتقنين كل أمور البشر عبر معايير مضبوطة ونظم ملزمة؟ أين مفهوم المواطنة فى «أستاذية العالم» التى تحدث عنها حسن البنا وعبدالقادر عودة، وغيرهما من مؤسسى الجماعة؟
المشكلة عند الإخوان ليست فقط فى رؤيتهم للدولة، بل إنهم يرون عناصر الجماعة مكرسين وحدهم للحكم، وأن عليهم وحدهم العمل على إقامة الدولة الإسلامية، لتحقيق هدفين أساسيين: تحرير العالم الإسلامى، والتأسيس لوطن جديد، ويجب على الجماعة فى هذا السعى تكوين الشخص المسلم، ثم الأسرة المسلمة ويليها المجتمع المسلم، انطلاقاً إلى تحقيق أستاذية العالم!
من هنا يرفض «البنا» فى الأصول العشرين كافة أشكال التعدد الحزبى؛ مُعولاً فى العمل السياسى الإصلاحى على «وحدة الصف» المتمثلة فى الجماعة كممثل سياسى للأمة، قائلاً «إنها (الأحزاب) سيئة هذا الوطن الكبرى وأساس فساده الاجتماعىّ الذى نصطلى بناره، وإن الأمة لن ينقذها إلا أن تنحل هذه الأحزاب كلها، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن، وإن الإسلام هو دين الوحدة فى كل شىء».
سيد قطب كان أكثر تطرفاً، حيث قرر أن مهمة الجماعة الأولى هى تكفير المجتمع (الجاهلى) والخروج عليه خروجاً تاماً حتى يكتمل الإعداد للانقضاض على السلطة من أجل إقامة الدولة الإسلامية التى تكون «قاعدة التعامل فيها هى شريعة الله والفقه الإسلامى».
وأسّسَ قطب للمرحلة الحاسمة والنهائية لخلاصة أفكاره الثورية عن العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع، «وبدأ بشحن مفهوم الجاهلية ليعطيه بُعداً أكثر حركية، واستخدم المصطلح فى الأصل ليصف به المجتمعات الإسلامية التى رأى بأنها لا تخضع لحكم الله وشريعته دون أن يكفّرها، معتبراً إياها مجتمعات ترزح تحت طائلة الجهل بالإسلام وتعاليمه، وأعمال الشرك، لكن قطب صمّم على إضفاء بعد حركى للمفهوم، ليبرّر بموجبه لاحقاً، تكفير معظم الدول والمجتمعات الإسلامية، التى اعتبرها تعيش كلها فى جاهلية».
واعتبر قطب أن الدولة التى لم تخضع لحاكمية الله ديار حرب وكفر، بغض النظر عن الدين الذى يعتنقه سكّانها؛ لأن هناك داراً واحدة هى دار الإسلام، تلك التى تقوم فيها الدولة المسلمة، وتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضا.
وما عداها، فهو دار حرب، يقول سيد قطب فى هذا الصدد: «كل ما حولنا جاهلية.. تصورات الناس وعقائدهم، عاداتهم وتقاليدهم، موارد ثقافتهم، فنونهم وآدابهم، شرائعهم وقوانينهم، حتى الكثير مما نحسبه ثقافة إسلامية، ومراجع إسلامية، وفلسفة إسلامية، وتفكيراً إسلامياً.. هو كذلك من صنع الجاهلية».
وفى فترة السبعينات والثمانينات استمراراً إلى الآن عاش الإخوان تناقضاً بين موقفهم التأسيسي والنظري للدولة، وموقعهم من العمل السياسي والحزبي فيها، وكانت أهداف الجماعة واضحة، وهى الممارسة من أجل الوجود والبقاء، والعمل السياسي والاجتماعي من أجل الانتشار والدعوة.
وأصبح داخل الجماعة عدد من الاتجاهات، الأول يدعو إلى الحوار مع الدولة والانخراط فى المشاركة السياسية والتعاطي معها والأطراف السياسية الأخرى، والثاني يرفض المشاركة السياسية والعمل العام، لأنه «يساهم فى دعم كيانات الجاهلية».
ومع بدء الحوارات المتوالية بين الجماعة والغرب، وتحديداً منذ عام 1995، نلحظ أن الخطاب والممارسة الإخوانية اختلفت، وبدأ الحديث عن دولة الخلافة يتوارى تماماً فى الأدبيات الإخوانية التي صدرت فى المسألة السياسية فى السنوات الأخيرة وفى البيانات الرسمية، وذلك من أجل الانخراط بالعمل فى الدولة بشكل براجماتي، ومن ثم ظهر مفهوم «الدولة الإسلامية الديمقراطية» الذى بلورته قيادات الجماعة دون أن تعطيه مضموناً نظرياً جلياً.
ما سبق يفسّر لنا لماذا هم يريدون هدم الدولة دون أن يهتز لهم رمش عين، ولماذا هم يمارسون العمل السياسي، ولماذا هم منقسمون ويختلفون حول هذه الممارسة.