الظهور الأول لنبي الله «داود» ارتبط بحالة الفوضى التي ضربت بني إسرائيل، بعد أن استطاع العمالقة هزيمتهم فوق أرض غزة وعسقلان. في هذه الأثناء بعث الله نبياً جديداً لهم -من بعد نبيهم الأكبر موسى عليه السلام- هو «شمويل»، في محاولة لإعادتهم مرة ثانية إلى مربع الإيمان بعد أن ضلوا، وقد دعوا هذا النبي إلى أن يختار لهم ملكاً يتجمعون تحت رايته لقتال العمالقة، وبعث الله تعالى لهم «طالوت» ملكاً، وكان ما تعلمه من اختلاف بني إسرائيل عليه بسبب فقره، وما حدده الله من أسباب للاختيار، تتمثل في ثراء العلم والجسم.. يقول الله تعالى: «قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَاده بَسْطَةً فِى الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»، وانقسم بنو إسرائيل بين كثرة جبنت عن مواجهة «جالوت»، وقلة قليلة ثبتت وخاضت الحرب حتى النصر، وكان «داود» على رأس هذه القلة.
يذكر ابن كثير فى «البداية والنهاية» أن «داود» عليه السلام كان أصغر أولاد أبيه، وكانوا 13 ذكراً، وكانت شغلته صناعة الدروع، يقول تعالى: «ولقد آتينا داود منا فضلاً يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد أن اعمل سابغات وقدر في السرد واعملوا صالحاً إني بما تعملون بصير».. وقال تعالى: «وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ».. لم تكن صناعة الحديد بالسهلة في ذلك الزمان، بل كانت من أشق أنواع الصناعات، وكانت الحاجة إليها ملحَّة فى سياق المواجهات العسكرية المتواصلة التي تقع بين العمالقة وبنى إسرائيل.
يقول «ابن كثير»: «أعان الله داود على عمل الدروع من الحديد ليحصن المقاتلة من الأعداء، وأرشده إلى صنعتها وكيفيتها، فقال: وقدر في السرد» ومعنى «وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ»، أي في وزن الدرع -والله أعلم- بحيث لا يكون خفيفاً عاجزاً عن حماية صاحبه، أو ثقيلاً زيادة عن اللازم فلا يمنح حامله المرونة الكافية في القتال.
عاش «داود» في شبابه أجواء الصراع بين العمالقة وبني إسرائيل، وعاصر الهزائم المتتالية التي لاقاها قومه على يد العمالقة. وبعد أن أرسل الله تعالى إلى بني إسرائيل «طالوت» ملكاً، سمع «داود» عن المكافأة الكبيرة التي وعد بها الملك الجديد من يقدر على قتل «جالوت»، بتزويجه من ابنته وأن يجعله شريكاً له فب الملك. تقدم «داود» لأداء هذه المهمة، وكان مشهوراً بين قومه بالقدرة على الرمي بالمقلاع، يضع فيه الحجارة القاتلة ويقذفها بدقة على الهدف فيقضي عليه. ولما تواجه الجيشان برز «جالوت» ودعا إلى نفسه فتقدم إليه داود ورماه بالمقلاع وقتله، وتحقق النصر.
كان من الطبيعي أن يلتف بنو إسرائيل حول «داود» بعد أن مكنهم من عدوهم، وبعد أن أصبح زوج ابنة ملكهم «طالوت» وشريكه في الحكم، وبمرور الوقت أصبح هو المتصرف الأول في أمورهم، وقيل إن الناس أطاحت بـ«طالوت» من كرسي الملك وولت «داود» مكانه ملكاً على بني إسرائيل، تأسيساً على ذات المعادلة التي أقرها الخالق العظيم حين بعث لبني إسرائيل طالوت ملكاً، معادلة العلم والقوة «قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَاده بَسْطَةً في الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ».