البيان الذي أصدرته حركة حماس بعد أيام من الصمت على اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية فى طهران، يؤكد أنه لا جدوى من مٌفاوضات مفرغة من مضمونها، حيث خاضت حماس مفاوضات كثيرة وقدمت كل ما يلزم من مرونة وإيجابية من أجل الوصول إلى اتفاق.
لقد طالبت الحركة فى بيانها الوسطاء فى مفاوضات وقف إطلاق النار بتقديم خطة لتنفيذ المقترح الذى طرحه بايدن فى نهاية مايو الماضي، وقرار مجلس الأمن الدولي بهذا الخصوص، والذي وافقت عليه الحركة آنذاك. واقترحت حماس فى بيانها الذهاب لرؤية الرئيس الأمريكي بايدن وقرار مجلس الأمن، وإلزام إسرائيل بذلك، بدلاً من الذهاب إلى مزيد من جولات المفاوضات أو مقترحات جديدة، واعتبرت أنها قد «توفر الغطاء لعدوان الاحتلال، وتمنحه مزيداً من الوقت لإدامة حرب الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطينى».
إن انتظار مفاوضات يوم الخميس المقبل، التى أطلق عليها «مفاوضات الفرصة الأخيرة»، ربما لن تُسفر عن شىء إذا ما تمسك نتنياهو بأحجار الشطرنج التي يحركها كيفما يشاء، بتقييد حركة الوفد الإسرائيلى المفاوض، بمعنى أنه في كل جولة مفاوضات تقترب من الاتفاق على وقف إطلاق النار وصفقة تبادل الأسرى، يقوم نتنياهو بوضع شروط جديدة أو عراقيل تمنع إبرام أي صفقة، فتعود المفاوضات إلى نقطة الصفر، لذا ترى حماس أن المفاوضات لا بد أن تنطلق من حيث توقفت، خاصة أنها وافقت مسبقاً على مقترح الرئيس الأمريكي جو بايدن، لذا لا ينبغى العودة إلى نقطة الصفر والبدء فى مفاوضات عبثية جديدة لا يريد لها نتنياهو النجاح، والعالم كله بات يدرك ذلك.
ربما يتغير المشهد التفاوضي بعد أن ترأس يحيى السنوار رئاسة المكتب السياسى للحركة، خلفاً لإسماعيل هنية، وهو المعروف براديكاليته وحزمه، وهذا ما يدركه نتنياهو وحكومته جيداً، فى توازٍ مضاد للحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة، ليرد عليها بنفس الرسائل أنه لا تنازل ولا استسلام ولا انصياع لرغبات نتنياهو، وهنا سيبدو المشهد أكثر تعقيداً لجهة مستقبل المفاوضات.
وفى ما يبدو فإن يوم الخميس لن يشكل علامة فارقة أو حدّاً حاسماً لتلك المفاوضات كما توقع الوسطاء، بل من المرجّح أن يمثّل جولة تفاوضية عادية من بين كل الجولات التي انتهت بلا نتيجة تُذكر، ولعل السبب الجوهري فى ذلك أن الإنجاز الذى يمكن نتنياهو من التباهي به أمام الرأي العام الإسرائيلي لم يتحقّق بعد، رغم محاولاته الاستعاضة عن ذلك الإنجاز المبهم فى غزة، بضربات استخبارية دقيقة تمنحه فرصة الظهور بمظهر المنتصر فى هذه الحرب، التي يزعم أنها تُشن من سبع جبهات على إسرائيل، ومن هذا المنطلق وجّه تلك الضربات الثلاث إلى الحديدة وبيروت وطهران، غير أن ردود فعل الأطراف الثلاثة أفسدت نشوة الانتصار المزيف، وأوقعت إسرائيل فى زاوية حرجة وخطيرة استنزفت كل صورة لانتصار مزعوم.
أما فى غزة وفى ضوء المواجهات العسكرية الميدانية خلال الأسبوع الفائت، فقد بات من الواضح أن الجيش الإسرائيلي ما عاد بوسعه القيام بعمليات برية واسعة ومركزة حتى إن تهديداته لسكان غزة وشمالها وجنوبها بضرورة الرحيل، لا تجد آذاناً صاغية ولا تشهد تلك المناطق نزوحاً مكثّفاً كما كانت تفعل في بدايات الحرب.
لقد أفاد ضباط إسرائيليون لبعض وسائل الإعلام بأنهم يستغربون تصريحات قياداتهم بأن النصر فى غزة قريب ومحتم، لأن الوقائع على الأرض تشير بدون شك إلى تماسك حماس وثبات قدرتها على خوض المعارك ونصب الكمائن، وإطلاق وابل يومي من الصواريخ والقذائف المدفعية تجاه نقاط تمركز الجيش الإسرائيلي، وتلك المؤشرات مجتمعة تؤكد وتفسّر سبب مماطلة نتنياهو في المفاوضات، فاستناداً إلى المعطيات الميدانية تلك، لن يحقق نتنياهو إنجازاً عسكرياً أو تفاوضياً مهماً، ما يعنى الفشل الصريح والواضح، وما يزيد الأمر خطورة بالنسبة له أن قيادة حماس باتت الآن بعد اغتيال هنية أقل استجابة لضغوط الوسطاء، باعتبار أن المفاوض الرئيسي الآن آمن في غزة، ولا يمكن لإسرائيل الوصول إليه، هذا بالإضافة إلى ما سبّبه اغتيال هنية من حرج للوسطاء الذين لم يتمكنوا من حماية المفاوض الرئيسي السابق إسماعيل هنية، وعليه كان رد حماس الأخير، ورغم المرونة الظاهرة فيه، صلباً في جوهره، بحيث أكد رفض الدخول فى جولة تفاوضية جديدة، وطالب بجدول عمل تنفيذي لاتفاق الإطار الذي تم الوصول إليه قبل أسابيع، وتفهم قيادة حماس أن الإدارة الأمريكية باتت أقرب إلى القبول بهذا المطلب، وتدرك أيضاً أن الإدارة الأمريكية ضاقت ذرعاً بألاعيب نتنياهو، وأنها قد تبدأ قريباً فى الإفصاح عن غضبها من مماطلته وتسويفه، مما يعنى أن أى جهد سيُبذل لإقناع حماس بالتراجع عما قبلت به في اتفاق الإطار، بات مستحيلاً بعد أن تولى السنوار قيادة الحركة.