أيا كانت الحقيقة في قضية ضابط الشرطة، الناشط بائتلاف ضباط الشرطة، المتهم بتسهيل ممارسة الدعارة، فالنتيجة حتما ستكون سلبية بحق وزارة الداخلية، سواء ثبت اتهام الضابط بهذه الجريمة المشينة أو إذا تبينت النيابة والمحكمة أن التهمة ملفقة !
ويبقي السؤال هنا.. ما الرسالة التي تريد وزارة الداخلية إرسالها للرأي العام من ضبط هذه القضية؟
إلى هذا الحد بلغت حالة انعدام الرؤيا والفشل في تقدير الموقف لدى القيادات الأمنية المرتبطة بهذه القضية.. إلى هذا الحد ضاعت البوصلة التي تحتم على أي قيادة أمنية اتخاذ القرار الصائب بعد الدراسة الوافية من كافة الجوانب لأي موضوع يتطلب المواجهة المحسوب عواقبها!
بالطبع، وقبل أن أواصل الحكي في هذا الأمر، أسجل أنه لا أنا ولا أي عاقل، يمكن أن يدافع عن أي متجاوز للقانون، مهما كان ضابط أو غير ضابط، كبير أو صغير، أسجل كذلك أنني لا أتعرض من قريب أو من بعيد لمحتوى هذه القضية من اتهامات موجهة للضابط وردوده عليها، فهذه المهمة موكولة وبكل الاحترام للنيابة العامة وللمحكمة التي قد تحال إليها أوراق القضية.
الحقيقة أن نظرة تحليلية معمقة للكثير من تصرفات عدد ليس بالقليل من القيادات الأمنية في الأشهر والأسابيع القليلة الماضية، تكشف أن هناك نقصا شديدا في الاحترافية والمهنية، وإليكم بعض الحوادث تؤكد ما أقول، وهي على سبيل المثال وليس الحصر، حادث مصرع الناشطة شيماء الصباغ، وحادث مصرع أكثر من عشرين شخصا في محيط ستاد الدفاع الجوي، وحادث الاعتداء على ضابط المطار من السيدة التي قيل إنها متهمة بحيازة مخدرات، وكذلك حادث قيام ضابط شرطة بالاعتداء على أحد المحامين بكفر الشيخ.
التفكر في كل هذه الحوادث يكشف أن هناك نقص خبرة لدى القيادات الأمنية العليا، انعكس بذات القدر، وربما أسوأ، علي الضباط، وخصوصا صغار الرتب والتخصصات، فلو كان لدى القيادة الميدانية في حادث مقتل شيماء الصباغ، بعض من التعقل الأمني والإدراك السياسي لكان قد اتخذ قرارا مغايرا للقرار الذي أصدره بفض المسيرة بالقوة، وبإطلاق وابل من عبوات الغاز المسيل، فالمسيرة لم تكن تضم سوى عشرين شخصا، أيضا القائد الميداني المسئول عن تأمين دخول المتفرجين إلى ستاد الدفاع الجوي، لو كان لديه إلمام بتداخلات أزمة حضور الجماهير لمباريات كرة القدم، المشتعلة منذ مأساة حادث ستاد بورسعيد. لو كان مدركا لتداخلات الأزمة لكان قد أصدر توجيهاته بتوسيع النطاق الأمني في محيط الإستاد، خصوصا وأن الإستاد يقع على شارع عرضه أكثر من مائة متر، وطوله يزيد على عشرة كيلو مترات، لو كان فعل ذلك لتلافى مصرع عشرين شخصا ماتوا بسبب الزحام الشديد، الذي أحدثه قرار إقامة نقاط التفتيش والتدقيق على بعد أمتار قليلة من بوابة الدخول للإستاد. وكذلك لو كان هناك قيادة أمنية واعية بمطار القاهرة لكان قد اتخذ قرارا سريعا بتحرير محضر بتجاوز السيدة التي رأيناها في لقطات فيديو مطولة تهين ضابط شرطة، لم يكن يهمه فقط سوى التأكد من أن هناك كاميرات تصور الإهانات التي توجهها له السيدة المتهمة، وأيضا الضابط الذي أنهى شجارا مع أحد المحامين، بأن خلع حذاءه واعتدى به على وجه المحامي، لو كان لهذا الضابط قيادة أمنية مباشرة تداوم على إصدار التوجيهات والتعليمات له ولغيره من الضباط، لكان قد التزم بالتعليمات وأسس العمل التي تقول إن القانون هو الأداة الوحيدة لرجل الشرطة في تنفيذ رسالته، وباستخدام الورقة والقلم فقط يستطيع إثبات النيل من الحقوق، بما فيها حقه هو شخصيا!
للأمانة هذه الحالة من اللامهنية التي تسيطر على الكثيرين من القيادات الأمنية، ليست وليدة فترة تولي الوزير الحالي اللواء مجدي عبد الغفار، ولا الوزير السابق اللواء محمد إبراهيم، ولا الوزراء الأسبقين الذين تولوا الوزارة بعد ثورة يناير، أعتقد أن هذه الحالة نتيجة مباشرة لما كان يتم في عهد اللواء حبيب العادلي ولأكثر من عشر سنوات، حيث كان يتم مد الخدمة بعد سن الستين لقيادات وضباط مرضي عنها، وإنهاء خدمة من هم أكثر كفاءة وقدرة.. الحقيقة أن هذه السياسة كانت غير مسبوقة في تاريخ وزارة الداخلية. التي كان النظام المتبع في إنهاء الخدمة يعتمد على إحالة القيادات للتقاعد إما عند بلوغ السن القانونية للاحالة للمعاش وإما لعدم الصلاحية، هذا النظام، رغم الاختلاف أو الاتفاق مع بعض بنوده، إلا أنه كان يضمن تواصل الأجيال وترقي الكفاءات وتجديد الدماء والعقليات الأمنية بشكل يحقق فوائد جمة على المجتمع من خلال التطوير الدائم لمنظومة القيادة في وزارة مهمة هي وزارة الداخلية، إضافة إلى ان هذا النظام كان يضاعف الطموحات والآمال داخل قلوب وعقول القيادات الوسطى، وقيادات الجيل الثاني والثالث بجهاز الشرطة، وكان يدفع الكثيرون منهم إلى الاجتهاد، أملا في الوصول إلى وظيفة مدير أمن ومساعد وزير ومحافظ ووزير داخلية أيضا. لقد قضي نظام مد الخدمة بعد سن الستين على أجيال عدة من ضباط الشرطة، وهو ما يضع قيادة الوزارة الحالية في مأزق عدم وجود قيادات متمرسة على أعمال القيادة، هذا النظام أنهى وجود ما كان يعرف بالمجلس الأعلى للشرطة، الذي كان يضم دوما ما يقرب من ثلاثين قيادة أمنية تشارك وبفاعلية في صنع السياسة الأمنية وتفعيلها والإعداد المستمر للقيادات الشرطية.
الأمر الآخر الذي أراه من بين الأسباب التي أفقدت جهاز الشرطة فاعلياته، هو تطبيق قانون تجديد مد خدمة ضباط الشرطة سنويا بعد الوصول لرتبة العقيد، هذا القانون أصر على تطبيقه الدكتور كمال الجنزوري عام ١٩٩٨، عندما كان رئيسا للوزراء، وهو ما استجاب له اللواء حبيب العادلي وزير الداخلية، آنذاك، رغم الخطورة البالغة التي أحدثها تطبيق هذا القانون على القاعدة العريضة من الضباط ممن وصلوا لرتبة العقيد، تلك الرتبة التي تمثل العصب الأساس لجهاز الشرطة، وسنة بعد سنة من تطبيق هذا القانون، اختار الكثيرون من الضباط الأكفاء، الاستقالة والبحث عن فرصة حياة مستقرة، حتى من استمر في الخدمة من المتميزين كتم طموحه في قلبه، وبحث بين القيادات عمن يضمن له مد الخدمة عاما بعد عام، كي يكمل رسالته في الحياة كأب وزوج.
إضافة إلى هذا وذاك، قام الإخوان سواء بضرب جهاز الشرطة خلال أحداث يناير أو خلال فترة سيطرتهم على مقاليد الأمور بالبلاد، قاموا بعملية تخريب كبرى داخل بنيان جهاز الشرطة لا زالت أثارها قائمة داخل الجهاز.
وبعد الثلاثين من يونيو عام ٢٠١٣ انضم ضباط وأفراد الشرطة لملايين المصريين، وأزاحو حكم الإخوان، وقدموا مئات الشهداء ولا يزالون. ولم يكلف أحد نفسه بأن يبحث عن حلول عملية تعيد لجهاز الشرطة فاعليته وترفع الظلم عن أفراده، حتي يمكننا أن نطالبه بأن يكون جهازا حاميا للأمن محترما للقانون.