لم تخطئ عيناي أبداً، أنني ذاهب إلى أكبر دولة مسلمة على وجه الأرض، حين اقتحمتهما أجساد ضامرة لنساء ملفوفات في ملابس وسيعة فضفاضة تملأ صالة الانتظار فى مطار الدوحة، لكن حين حطت الطائرة فى مطار جاكرتا وانطلقت الحافلة فى شوارعها الوسيعة النظيفة التى تمر بها سيارات يابانية من أنواع مختلفة، رأيت عالماً آخر متنوعاً، فيه رجال قصار فى الغالب الأعم، ونساء سافرات ومحجبات، وبيوت ذات أسطح مائلة تستقبل مطراً طوال السنة تقريباً، وبنايات شاهقة، تحتضن متاجر دشّنتها العولمة، لتجذب الطبقتين العليا والوسطى، وتفتح باباً للاغتراب فى بلد يتسم أهله بالبشاشة والسماحة والسكينة والإقبال المفرط على الحياة.
قبل هذا كان علىَّ أن أتقلب حيرة بين فتح عينىَّ على اتساعهما أو غلقهما تماماً، بينما الطائرة قد غادرت أجواء الهند وسيريلانكا وتقترب من ماليزيا، وبعدها إندونيسيا التى نقصدها، فالشمس تكاد تسكن مقلتىَّ، لتقول لى فى بساطة:
«أهلاً بك فى بلاد الشروق المبهر».
كان المطار بسيطاً، مدرجه زاهى الخضرة، حيث حشائش مشذبة، تجعلها الأمطار المنهمرة فى أغلب الأوقات تهيج وتتوحش وتزحف على الممرات التى تقلع منها الطائرات وتهبط عليها، بينما الشمس لا تلبث أن تعود سريعة إلى سطوعها، لكن العمال لها بالمرصاد، حتى بدت كأنها أرضية ملعب كرة قدم، إلا الأطراف البعيدة، التى ظلت على حالها، لتدل على ما فعله هؤلاء فى سبيل أن تبقى أرضية المطار صالحة لاستقبال الطائرات.
حصلت مع رفاقى فى الرحلة على تأشيرة دخول البلد، وذهبنا إلى صرافة لندفع بعض ما لدينا من دولارات ونحصل على العملة المحلية وهى الروبية. كانت المائة دولار تقترب من المليون روبية، فأخذنا نتندّر على أننا قد صرنا مليونيرات بإندونيسيا فى لحظات، لكن كل هذا الوهم قد تبخّر حين وجدت نفسى بحاجة إلى دفع ستين ألف روبية ثمناً لوجبة مكونة من ربع دجاجة وبعض الأرز، لم أستطع تناولها لأننى اكتشفت فور وضع أول قضمة فى فمى أن لحم الدجاجة، المحمّرة ذات المنظر الشهى، غارقة فى عسل النحل، ثم أدركنا جميعاً فى اليوم الثانى على الغداء، أن أهل إندونيسيا يأكلون اللحوم بالسكر والعسل، ويستسيغونها على هذا النحو، ويلتهمونها فى نهم شديد.
فى السوق نفسها التى اصطدمت فيها بالدجاج الحلو بحثت عن نرجيلة، فوجدتها فى مكان معزول، يقف فيه شاب لا يعرف أى لغة غير المحلية، حدّثته بالإنجليزية فلم يفهمنى، ولم يفهم العربية أيضاً، لكن لغة الإشارة، التى تذيب الفوارق والحدود والفواصل، كانت هى الحل، فقرّبت بيننا. طالعت بعينى أنواعاً كثيرة من المعسل، لا أعرفها. دقّقت النظر فى المكتوب على كل باكو ملون منها، فأدركت أنى أراها للمرة الأولى. سألته عن «معسل سلوم»، فهزّ رأسه، ومد يده خلف رصّات من أصناف أجهلها، وأخرج «باكو واحد».
تهلّلت أساريرى، فقد مر وقت طويل علىَّ دون تدخين. بدأت أحاول إفهامه أننى أريد تدخين حجر واحد، لكنه فهم خطأً من لغة إشارتى أننى أريد الباكو كله، فراح يهز رأسه رفضاً، وشعرت بأننى لا أستطيع أن أجعله يفهم ما أريد، فأشرت إلى شاب مهندم يمر من أمامى، فجاء إلىَّ، فسألته إن كان يتحدث الإنجليزية، فقال: نعم، فأفهمته ما أريد، ونقل هو باللغة المحلية ما قلته لصاحب المقهى، فاتسعت ابتسامته حتى كادت تبتلع وجهه، وأتى إلىَّ بما أريد.
لا يُدخّن الإندونيسيون النراجيل بطريقتنا، إنما يضعون المعسل فى مكان، تعلوه دائرة حديدية مجوفة بها فتحات فى قعرها، توضع فيها النار، فترسل لهيبها القوى إلى المعسل، فتسخنه، وحين يُسحب يندفع دخانه إلى ماء النرجيلة، فخرطومها، إلى فم شاربها. طلبت من صاحب المقهى أن يضع لى النار فوق المعسل مباشرة، كما نفعل فى مصر، وفى كل بلاد العرب، فتعجّب من طلبى، لكنه استجاب.
كانت جلستى على رصيف المقهى الذى يشرف على ممر وسيع بالسوق، يمضى فيه الناس متزاحمين إلى مختلف غاياتهم. كان أى منهم يلمحنى، يتوقف ناظراً إلىَّ فى استغراب، ويبتسم. بعضهم كان يُقهقه من هذا الذى يضع النار على المعسل، ولا يرى أى مشكلة فى هذا. كانوا ينظرون إلى سحنتى فيدركون أننى رجل غريب، فيهزون رؤوسهم متقبلين ما أفعله فى رضا.
فى الحقيقة لم تكن هناك غربة شديدة بينى وبينهم، ففضلاً عن الإنسانية التى تجمع الكل، والدين الذى أدين به ويدينون، فالتجربة السياسية تقرّب بيننا. فمع إندونيسيا تكون أمام تجربة شبيهة بما عركته مصر فى الستين سنة الأخيرة، وليس بالطبع فى آلاف السنين التى دب خلالها الآدميون على ضفاف النيل، سوكارنو يماثل عبدالناصر، حيث الاستقلال والبناء والعدل الاجتماعى والأحلام العريضة والاستبداد السافر والمقنّع، وسوهارتو يضاهى مبارك، حيث التبعية والعجز والفساد والطغيان والترهل، الأول قامت ضده تظاهرات تطالب بالإصلاح فى عام 1998 فأسقطته وبقى نظامه، لكن إصرار الناس على تحصيل الأفضل فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الثمار ثورة كاملة، لا سيما بعد الخروج التدريجى للجيش من الحكم، أما الثانى فقامت ضده ثورة عظيمة عام 2011 فسقط أيضاً وبقى نظامه يلتف عليها ويسعى فى إجهاضها، لكن الحكم على النتائج النهائية والكلية ليس الآن بأى حال من الأحوال.