ذهبت إلى جاكرتا للمشاركة فى مؤتمر عن «الإسلام… الدولة والسياسات» بدعوة من «معهد السلام والديمقراطية» التابع لجامعة أوديانا، فسمعت من أساتذة العلوم الإنسانية هناك شهادات وإفادات مبهرة عن «التمازج بين الإسلام والثقافة التقليدية»، وعن الدولة «اللاعلمانية واللادينية التى تعطى الدين وزنه فى الحياة وليس فى السلطة»، التى يثبت وجودها على سطح الأرض فى حد ذاته كذب مفهوم «الدولة الحارسة للدين»، و«قوة الدين فى حد ذاته كى يحرس نفسه»، إذ إن الإسلام لم يدخل إلى إندونيسيا بالفتوحات إنما جاء فى ركاب التجارة والتسامح وقوة الحجة وصفاء العقيدة، فدافع عن نفسه من دون وصاية من ملك أو سلطان أو أمير.
هناك تجد التدين ظاهراً فى سلوك الناس وليس فى أزيائهم وادعاءاتهم رغم أن الشعب الإندونيسى لا يعتبر الإسلام أساساً لقيام الدولة، وفى الوقت ذاته لا يجد غضاضة فى «تطبيق بعض أقاليم الدولة للقوانين الإسلامية»، لكن فى شكل عصرى بعيداً من أضابير الكتب القديمة وخلافات فقهاء الزمن الغابر، وفى صيغة تتعانق فيها الثقافات المحلية مع مقتضيات الشرع فى انصهار عجيب، وفى طريقة تحول فيها الدين إلى طريق لحل المشكلات لا وسيلة لخلقها.
الإسلام ذائب هنا فى نفوس الناس من دون طلاءات ولا زيف ولا تمسك بالمظاهر الخادعة والقشور الهشة، وصوت أذان الفجر فى إندونيسيا يبعث على الخشوع والسكينة، عذوبة الصوت بالنغمة المصرية الأصيلة بنت مدرسة الأزهر العظيمة التى وضعت بصمتها هناك فى قلب البحار البعيدة.
وفى إندونيسيا يتجاوز أعضاء جمعية «نهضة العلماء» الإسلامية ٤٥ مليون عضو و«المحمدية» نحو ٣٥ مليون عضو، لكنهما لا تلزمان أتباعهما بالتصويت فى الانتخابات لمصلحة أحد بعينه، لأنهما تؤمنان بحرية الفرد، ولا تجبرانه وفق مبدأ «السمع والطاعة» الذى يسلبه إرادته وقراره، وينصرف جهد هاتين الجماعتين على تحقيق الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى والتماسك الأسرى والنفع العام أو العمل الخيرى.
وتسعى الدولة التى تتكون من ١٣ ألف جزيرة عائمة فى المحيط الهادى، إلى جعل تنوعها مصدراً للقوة وليس للضعف والتفكك، لذا كان عليها أن تبدع صيغة تحكم علاقة مستقرة بين سكانها الذين ينتمون إلى ٣٠٠ عرق ويتحدثون ٢٥٠ لغة ويدينون بأديان عدة، أولها الإسلام، ويدين به ٨٦٫١ فى المائة، ثم البروتستانت ٥٫٧ فى المائة، والكاثوليك ٣ فى المائة، و١٫٨ فى المائة، و٣٫٤ فى المائة يعتنقون معتقدات أخرى. ومن أجل المحافظة على وحدتها صاغ الرئيس سوكارنو عام ١٩٤٥، وعقب انتهاء الاحتلال اليابانى مباشرة، مبادئ خمسة لتحكم دستور الدولة يسمى «البانكسيلا» التى تعنى بالعربية «كلمة سواء» جاءت على النحو الآتى:
- الإيمان بإله واحد.
- إنسانية عادلة ومتحضرة.
- وحدة إندونيسيا.
- الديمقراطية تقودها الحكمة الداخلية فى توحد ناشئ من المداولات بين الممثلين.
- العدالة الاجتماعية لجميع أفراد الشعب الإندونيسى.
حين زرت جاكرتا كانت الحياة السياسية الإندونيسية لا تعرف أى احتكار، فالانتخابات التى أجريت قبل ذهابى بثلاث سنوات، توزعت فيها حظوظ الفائزين فى شكل فيه مقدار كبير من التوازن، فالحزب الديمقراطى لم يحصل سوى على ٢٠٫٩ فى المائة، وبعده جاء حزب جولكار بـ١٤٫٥ فى المائة، وهكذا…
وجرت هذه الانتخابات فى سلاسة تامة، إذ إن عدد المقترعين فى اللجنة الواحدة لا يزيد على ٣٠٠ شخص، وأشرف عليها سكان كل منطقة بأنفسهم، فى شفافية تامة، وكان يتوجب على المرشحين للرئاسة أن يمروا باختبارات طبية دقيقة، بما فيها اختبار الذكاء، بعد أن ابتليت البلاد برئيسة غير متعلمة ورئيس شبه ضرير عقب سقوط سوهارتو.
لقد تحدث الإمام محمد عبده حين ذهب إلى أوروبا فى نهاية القرن التاسع عشر عن أنه وجد إسلاماً بغير مسلمين، وفى إندونيسيا هناك إسلام بمسلمين، ينصرف إلى الجوهر ويتفاعل مع مقتضيات العصر، فلا تجد الشوارع مزدحمة بأصحاب اللحى ومرتديات النقاب، بل تجدها عامرة بالسلوك القويم والرضا والاعتزاز بالدين والرغبة المتجددة فى تحسين شروط الحياة.
كنت قبل أن أزور هذا البلد الأخضر الأزرق، حيث الأرخبيل المطير، أضرب مثلاً بتجربة إندونيسيا مع الإسلام، فأقول: أكبر دولة يقطنها مسلمون فى العالم لم يدخل الإسلام بحد السيف. وأضيف: الإمبراطورية الإسلامية فى أيام الأمويين والعباسيين والعثمانيين اتسعت عنوة، وتحت سنابك الخيل، لكن الإسلام نفسه لم يكن فى كل الأحوال مربوطاً بهذه النزعة، وخير دليل على هذا إندونيسيا. وبذا كان هذا البلد الذى أدخله التجار اليمنيون، بورعهم وأمانتهم، فى رحاب جغرافية الإسلام الممتدة من غانا إلى فرغانة، حاضراً تماماً فى سجالاتنا، التى لا تتوقف، حتى إننا أتينا على ذكر هذا خلال المؤتمر، رغم أن سامعينا من أهل إندونيسيا ليسوا بحاجة إلى مثل هذا الكلام.
بعيداً عن المؤتمر، والكلام المباشر فى السياسة وعنها، أخذنا منظمو المؤتمر فى جولة بمعالم المدينة، ومنها حديقة واسعة بها قصر سوكارنو، الذى يبدو على جماله غاية فى البساطة، تستريح لردهاته الغارقة فى نور الشمس، وأسقفه الهادئة، وجدرانه البيضاء الوديعة، ثم حجراته الواسعة. إحدى هذه الحجرات كان عليها سرير خفيض، مفروشة فوقه ملاءة بيضاء، وواحدة مثلها تغطى وسادة لينة، ينسكب عليها نور ساطع، يتدفق من نافذة ذات ألواح خشبية.