يقول المثل: «عتاب الندل اجتنابه». «الندل» فى الأصل هو الشخص الخسيس، ويلصق به اللغويون أيضاً صفة الحقارة وصفة الاحتقار. الخسيس هو الشخص الدنىء، بما تحمله «الدناءة» من معانى اللهاث وراء المصالح، وانتهاز الفرص، واستغلال المواقف، والافتراء على الضعاف، ونفاق ومداهنة الجالسين على الكراسى ومُلاك المصالح، والجرأة على من يأمن، والجبن أمام من يعلم أنه يستطيع سحقه. الخبرة المصرية التى تمتد لآلاف السنين ترى أن أفضل أسلوب للتعامل مع «الندل» هو «اجتنابه»، فلا عتاب للندل سوى بالنبذ والتهميش.
القرآن الكريم قدم لنا نموذجاً للندل فى واحدة من الشخصيات التى دارت حولها أحداث قصة نبى الله موسى، وهى شخصية «موسى السامرى»، الذى غار من زعامة موسى لقومه، واستغل فرصة انشغاله بالذهاب إلى ميقات ربه لتلقى الألواح ورسالة التوراة، فأضل بنى إسرائيل، كان «السامرى» الندل قد استمع إلى بنى إسرائيل يطلبون من النبى موسى ذات مرة أن يصنع لهم إلهاً مجسداً يعبدونه، كما لغيرهم صنم معبود، وكان عجيباً وغريباً أن يطلبوا من موسى الذى علمهم الوحدانية هذا الطلب.. قال تعالى: «وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ».
انتهز السامرى فرصة غياب موسى واستغل الموقف وغازل مساحة الضلال النامية عند بنى إسرائيل، وأضلهم عن عبادة الواحد الأحد وصنع لهم عجلاً عبدوه، وحين عاد موسى ووجد المشهد على هذا النحو، عاتب شقيقه «هارون» الذى ترك قومه فريسة لهذا «الندل»، ثم أمسك بالسامرى، وأصدر حكمه القاسى عليه بأن يعيش موحوداً منبوذاً لا يطيق أحد الاقتراب منه أو التعامل معه. قال تعالى: «قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ». تقرر نفى «الندل»، وأمر موسى بنى إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له.
لست أدرى هل ثمة علاقة بين قصة السامرى والمثل المصرى الشهير: «عتاب الندل اجتنابه» أم لا؟ لكن المؤكد أن عقوبة الاجتناب هى العقوبة التى ارتضى عقلاء الناس التعامل بها مع الأنذال، فلا حديث معهم ولا كلام ولا عتاب، بل الاجتناب، حتى إذا كثروا وتكاثروا واضطر الإنسان إلى اجتناب الكثيرين فلا ضير فى ذلك، فالأندال فى الدنيا ليسوا بالعدد القليل.
هل تتذكر ذلك المشهد من رواية «اللص والكلاب» حين ذهب سعيد مهران إلى شيخ الطريقة التى كان عليها أبوه، وشكا له ما فعله به «الأندال»؟ لقد سأله الشيخ: كم عددهم؟، فرد سعيد: ثلاثة، فعلق الشيخ قائلاً: مرحباً بالدنيا إذا اقتصر «أندالها» على ثلاثة. الشيخ الواعى المجرب كان يعلم أن عدد «الأندال» أكثر من عدد الطيبين، وقد فاته أن «ندلاً» واحداً كفيل بتسميم أجواء الحياة من حوله، خصوصاً إذا وجد «ندلاً» آخر يؤيده.