يقول المثل: «اصبر على الجار السو يا يرحل يا تجيه مصيبة ترفعه».. يردد المصريون هذا المثل فى سياق تصبير النفس على عدم الاشتباك مع الجار السيئ، وتركه للزمن أو للقدر، فهو إما أن يرحل عن المكان ويروق الحال، أو تدهمه أقداره فترفعه من طريق من يرهقهم.
هذا المثل ينطوي على قدر من القسوة لا شك فى ذلك، فليس أصعب من أن يتمنى الإنسان الأذى لغيره، ولا يندفع البنى آدم إلى الوقوع فى فخ هذا الإحساس القاسي إلا بسبب قسوة ما يلاقيه من جاره.
العلاقات بين الجيران زمان كانت أشد عمقاً مما عليه الآن، فقد كان سكان نفس البيت أو العمارة أو الحارة أو الزقاق أو الشارع متفاعلين مع بعضهم البعض، وقد يحدث أن يتسبب أحدهم فى أذى للآخر، وما أكثر أنواع الأذى التي يمكن أن تترتب على حالة القرب التي تصل إلى حد الالتصاق بين البشر داخل الأحياء القديمة.
وظنى أن مسألة القرب تلك انتفت الآن، بما فى ذلك داخل الأحياء الشعبية العريقة التى تعوّد البشر فيها على الاندماج والتفاعل العميق فيما بينهم، وهذه المسألة منتفية بالأصالة داخل الأحياء الجديدة، التى لا تقوم على فكرة الالتصاق، لكن يبقى أن علاقة الجيرة ثابتة وقائمة فى الحياة، ولا يستطيع أن يهرب منها أحد.
فالإنسان لا بد أن ينخرط فى مجموعات، لأنه كائن اجتماعى، كما يقول علماء الاجتماع، والانخراط فى جماعة لا بد أن يضعك فى مواجهة جار، قد يكون طيباً أو «سواً»، وأنت ورزقك، لأن الجار الطيب رزق بالفعل.
ولعلك تتابع الأحاديث المتواترة هذه الأيام عن «مجتمع الكوميونتى» وكيف يغريك المعلنون بالسكن فى مكان معين يجمع بينك وبين من يتشابهون معك فى التكوين أو التركيبة الاجتماعية والاقتصادية، وكأنك بذلك تنجو من الوقوع فى فخ «الجار السو»، دون وعى بأن هذا النوع من الجيران لا يرتبط بطبقة اجتماعية أو اقتصادية أو تركيبة سكانية أو بيئة مكانية، فالجار السو مثل المادة لا تفنى ولا تستحدث من عدم، وهو موجود دائماً.
تعلم أن القرآن الكريم أمر برعاية ومراعاة الجار، بالمفهوم العام والشامل لكلمة «جار». قال تعالى: «وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِى الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِى الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ».
لقد جعل الله الإحسان إلى الجار معادلاً للإحسان إلى الوالدين، وكلنا يعلم كم حث الخالق العظيم عباده على الإحسان للوالدين. وتعدد الآية أصناف الجيران، التى تشمل الجار القريب الذى ترتبط معه بصلة رحم، والجار الذى لا تربطك به قرابة، بل تجتمعان معاً فى علاقة مكانية، والصاحب بالجنب الذى تجمعك به علاقة مؤقتة مثل علاقة العمل أو السفر أو أداء مهمة معينة وهكذا.
من يصادف «جاراً سواً» يعش مأساة حقيقية، لأنه يجد نفسه فى مواجهة شخص يختلف عنه فى التكوين والطبيعة، والحكمة فى مثل هذه الأحوال ألا تجارى السيئ فى سوئه، بل تجتهد فى الصبر عليه، وتتركه بعد ذلك للأيام ولأقدار الله، فإن شاء هداه، أو أراحك منه بتصاريف الأقدار.